النّظام العالمي.. "نهاية نموذج"!

تفكّكت المنظومات التّقليدية التي حكمت العلاقات الدّولية والدّاخليّة لعقود، من داخل تحوّلات مُزلزلة للبُنى الاقتصادية والسّياسية والاجتماعية الشّاهدة على عالم عجائبي تجاوزت تغيّراته كلّ التوقّعات. لقد أفضى منطق العوْلمة النيوليبيرالية، الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة، إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية، وإعادة تشكيل السيّادة الوطنيّة، وتركيز الثّورة والسّلطة بيد أقلّية معوْلمة تتجاوز بنفوذها مؤسّسات الدّولة.

النّظام العالمي..

أمام هذا الوضع الشّديد التعقّد، تشتبك تحدّيات كبرى تجاوزت الدّول الصّناعية لتشمل العالم العربي وهو يرزح تحت وطأة الهشاشة السّياسية والاقتصادية والاجتماعية وآفة الثروات المُبذّرة والتنكّر للنّخب المفكّرة والكفاءات الحقيقية. أصبحت هذه الآفات المُرَكّبة والمُتداخلة، تتطلّب إعادة التّفكير في أدوار الدّولة وفي العلاقات بين النّخب والمجتمع.

إنّ الاحتكار المُتنامي الذّي تُشَرْعِنُهُ الشّركات المتعدّدة الجنسيات ولا سيّما في القطاعات الاستراتيجية مثل الطّاقة كشركات (توتال إنيرجي وإكسون موبيل) والتكنولوجيا الرّقمية مثل (غوغل وأمازون وميتا ومايكروسوفت)، هو الآن بصدد إعادة تشكيل النُّظم التّاريخية التّقليدية للمجتمعات الحديثة في العمق. ومن شأن هذه الاحتكارات أن تخلق أوضاعًا مقلقةً في علاقة الأفراد بذواتهم وبالمجتمع من خلال زيادة هشاشة الوظائف، ونشر نماذج العمل المؤقّت مثل العمل عبر المنصّات وتآكل الحماية الحقوقية. وهذا يفرض نماذج اقتصادية جديدة قائمة على استخراج البيانات، والأتمتة، وتكريس التّبعية للتكنولوجيا.

منظومة قيميّة وثقافيّة تحاول فرض نموذجٍ كوْنيٍّ موحّد

بالموازاة مع ذلك، يُعيد هذا الاحتكار رسم ملامح التوازنات الجيوستراتيجية، حيث باتت هذه الشّركات تتمتّع بنفوذ يتجاوز سلطة الدّول، ما يُضفي طابعًا "فوق-دولتيّ". من هنا تبرز الإشكالية الجوهرية التالية: إلى متى ستظلّ الأوليغارشية الاقتصادية تُحقّق الأرباح على حساب حقوق الشّعوب ورفاهها؟ أمّا السّؤال الأخطر من سابقِه: هل لا يزال العيش المشترك القائم على العدالة ممكنًا في ظلّ هيمنة رأسمالية احتكارية غير مقنّنة؟.

هناك مواجهات ضد هذه الهيمنة تتراوح ما بين المطالب القومية كما في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، أو في صعود الخطابات السيادية في عدد من الدّول الأوروبيّة ومنها فرنسا، فضلًا عن العودة إلى المطالبة بإحياء اللغات والهويّات الأصلية التّي همّشتها العوْلمة، وبروز مقاومات اجتماعية مثل الحركات النّقابيّة، وحراك السّترات الصّفراء. هذه الأشكال من التمرّد المتعدّد، لا تُفهم إلاّ باعتبارها عودةً إلى الوعي باسترداد السّيادة التّي فقدتها الشّعوب، سواء أكانت سيادة سياسية تتمثّل في تراجع دور الدّولة أمام السّوق، كالتمرّد الشعبي في لبنان (2019) ضدّ الطبقة السياسية الحاكمة، وضدّ نموذج اقتصادي نيوليبيرالي فاقم الدّيون والفساد، أو سيادة اقتصادية يدلّ عليها فقدان القدرة على التحكّم في الموارد والثّروات الوطنيّة، كالمطالبة باسترجاع الثّروات الطبيعية في أميركا اللاتينيّة، مثل بوليفيا وفنزويلا، أو سيادة رمزية ثقافية تُعنى بالحفاظ على الخصوصية الحضارية والكرامة الجمعية، كحركة إحياء اللغات والثّقافات الأصليّة في كندا وأستراليا وأميركا اللاتينية، وتصاعد الخطابات الرّافضة للفرنكوفونية الثّقافية في المغرب والجزائر وتونس والاحتجاجات ضدّ محتويات "نتفليكس" في دوّل عربيّة إسلامية، باعتبارها تُهدّد الخصوصيّات القيميّة والدّينية للمجتمعات.

تزداد الحاجة الملحّة إلى بدائل جذريّة تُعيد ضبط العلاقة بين الاقتصاد والعدالة وبين السّوق والدّولة وبين الإنسان والعالم

إنّ هذه الحركات لا تُعبّر عن رفض العوْلمة النيوليبيرالية بوصفها منظومة اقتصاديّة، بل أيضًا عن مقاومة شاملة لمنظومة قيميّة وثقافيّة تحاول فرض نموذجٍ كوْنيٍّ موحّدٍ على حساب التعدّد والخصوصيّات.

لم يعُد الحديث اليوم عن أزمة دورية للنّظام العالمي، بل عن "نهاية نموذج" بأكمله، أي أزمة حضارية تمسّ تصوّرنا للثّروة، وللتّنميّة، وللدّولة، وللعلاقة بين الإنسان والطّبيعة. من هنا تزداد الحاجة الملحّة إلى التفكير في بدائل جذريّة وشاملة، تتجاوز مجرّد الإصلاح الجزئي أو التّنظيم التّقني، وتُعيد ضبط العلاقة بين الاقتصاد والعدالة، بين السّوق والدّولة، بين الإنسان والعالم الذّي يُعمّره.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن