من أهمّ عناصر التفرّد التي طبعت عمل الباحث، طريقته في وصف التحوّلات التي تعرفها المجتمعات المابعد صناعية، حيث تنبّأ أنّ هذه المجتمعات ستعاني من ثلاث أزمات كبرى تتجلّى في: أزمة الحريات، وأزمة التوجّهات والاختيارات، كما تنبّأ الباحث بعصر تتحوّل فيه حرّية الاختيار إلى نقيضها، حيث أنه بدلًا من أن تعمل على تحرير الفرد، وبسط عدة اختيارات أمامه، سوف تغدو أكثر صعوبة ومكلفة ماديًا.
كلّما عملنا على ضخّ البترول كلّما تضاءل الاحتياطي، وكلّما استُعملت ثروة المعرفة زادت وتراكمت
ويستكمل "توفلر" قراءته للأبعاد الأساسية في التحوّلات التي أثارتها تكنولوجيا المعلومات وعلى رأسها الاقتصاد الرقمي، من خلال عرضه لمفهوم الطاقة في عصر التكنولوجيات الحديثة، حيث المعرفة والذكاء هما محروقات الغد، وهذه الأخيرة تختلف اختلافًا جوهريًا عن الطاقات الأحفورية، فإذا كان امتلاك البترول مثلًا يتطلّب بنية تحتية مكلفة ماديًا، من خطوط أنابيب، وصهاريج وخزّانات، فتكنولوجيا المعلومات على العكس من ذلك، تعمل اليوم على تغيير أسلوبنا في التعامل مع معارفنا كمحرّك للاقتصاد، سواء في الإنتاج أو التخزين أو التوزيع، فالمعرفة هي 'الثروة الثورية'، وذلك ما أكده "توفلر" في كتابه "Revolutionary Wealth"، إذ اعتبر هذا الباحث أنه كلّما عملنا على ضخّ براميل البترول كلّما تضاءل الاحتياطي، أما المعرفة كثروة فهي على عكس ذلك، كلّما استُعملت زادت وتراكمت، وبذلك ضمن اقتصاد الغد ثروة لا تنضب أبدًا.
إنطلاقًا من هذه الرؤية دعا الأمين العام لجامعة الدول العربية (أحمد أبو الغيط) جميع الدول العربية إلى مراعاة المستجدات والأوضاع التي أحدثتها الثورة الرقمية من خلال "تبنّي استراتيجية عربية للتحوّل نحو الاقتصاد الرقمي"، لا تقتصر على الجاهزية والعتاد والبنية التحتية المستوردة في الغالب فقط، بل كذلك من خلال الاستثمار في البشر وتحسين نوعية التعليم المقدّم لأجيال المستقبل، وتوفير حياة كريمة لجميع الشعوب العربية، بمن فيهم المهمّشون والفقراء وأولئك المتواجدون في مناطق النزاع والاحتلال.
من ذلك أظهر مؤشر الاقتصاد الرقمي العربي للعام 2022 والذي يعتمد على المؤشرات الاستراتيجية الخمسة للرؤية العربية للاقتصاد الرقمي (الحكومة الرقمية، الأسس الرقمية، الاستعداد الرقمي للمواطن، الابتكار الرقمي، والأعمال الرقمية) تقدّم دول الخليج في التصنيف مقارنةً بباقي الدول، كما أظهر وجود فجوة هائلة بين دول الصدارة وعلى رأسها دولة الإمارات، والدول التي حقّقت أقلّ النتائج وكانت آخرها دولة فلسطين، حيث بلغ التباين بالنتيجة الكلّية حوالى 48 نقطة مئوية، أضف إليه وجود فارق هائل بين "الخطوات الاستراتيجية المتوقعة والواجب اتخاذها على صعيد العمل المحلي على مستوى كل دولة، وكذلك الفرص والامكانات على مستوى العمل العربي المشترك".
الاستثمار في تطوير المعرفة وتكنولوجيا المعلومات يساعد الدول العربية في أن يكون لها تأثير أكبر
وبالنظر إلى التحديات العالمية والإقليمية، خاصة مع اتساع أطروحة مجتمع المخاطر العالمي الذي صرنا نحياه (أولريش بيك)، فمن مخاطرة إلى أخرى ومن جائحة إلى جائحة، لم يعد الاعتماد على المعاملات البشرية في صيغتها الرقمية ترفًا أو شوفينيةً زائدة، ومخطئ من يعتقد أنّ برميل بترول قادر على مقايضة أي شيء في العالم، فقد جلسنا أمام شاشتنا التلفزية نتابع شراسة الصراع الذي قادته الدول الغربية فيما بينها لضمان كمامات وأجهزة تنفّس ولقاح، وصل الحد ببعضها إلى سرقة محتوى طائرات كاملة أو مفاوضة الصين مقابل الحصول على بعضها، وعليه فلا خيار للدول العربية إلا أن تلتفت إلى بعضها البعض، وتشدّ عضد بعضها البعض، من أجل جعل البيئة العربية أكثر ابتكارًا وقدرةً على إنتاج السلع والخدمات الرقمية والمنصات والبيانات والمحتوى الرقمي، بدلًا من الاقتصار على الاستهلاك والاستيراد من الآخر الذي صار يقايضنا حتى في أكثر إبداعاتنا رمزية وقيمة: "ثقافتنا"، إذ أصبح يعمل على إنتاجها رقميًا ويساومنا غاليًا لاقتنائها (وسيكون لنا مقال لاحق في الموضوع).
ثم إنه ومع ارتفاع أسعار النفط عالميًا، وجب على الدول العربية المنتجة له أن تنتهز الفرصة للاستثمار، وبشكل كبير، في تطوير المعرفة وتكنولوجيا المعلومات الرقمية العربية وتوسيعها على أوسع نطاق ممكن لزيادة الطلب والاستهلاك داخل سوق عربية مشتركة، حيث سيساعد ذلك هذه الدول أن تكون لاعبًا رئيسيًا في التحوّل نحو الاقتصاد الرقمي وفي أن يكون لها تأثير أكبر، وقدرة على السيطرة على استخدام هذه الأدوات والمنصات.
(خاص "عروبة 22")