"القوة تُطيل عمر السلام وتُبعد شبح الحرب".. إنّها نظرية سادت طيلة القرن التاسع عشر، وتمّ التخلي عنها بعد الحرب العالمية الثانية، بعد ظهور الدولة الكيان/السياسي السيادي، عقب موجة الاستقلال التي شهدها العالم، والتي كان يدافع عنها رؤساء أميركيون من فرانكلين روزفلت الى جون كينيدي، بعد إنشاء الأمم المتحدة والمنظّمات الدولية والإقليمية، لإقرار الأمن والسلام والتعاون الدولي.
هناك اقتناع داخل الإدارة الأميركية الحاليّة بأنّ العالم يضمّ عددًا مبالغًا فيه من الحكومات، من الصعب التعامل معها جميعها، وعلى القدر نفسه من المساواة، كما أنّ تعدّد الدول الفاشلة بات يُهدّد الاستقرار الإقليمي، ويُعرْقل تطوّر الاقتصاد وسلاسل الإمدادات الدولية التي أصبحت تحت رحمة ميليشيات مسلّحة، تعتدي على حرّية التجارة العالمية. ودول أخرى اختطفتها جماعات مسلّحة أو إرهابية أو جهادية، تجاوزت سلطة الدولة نفسها، وصار لها مرجعيّات ليست بالضرورة متوافقةً مع مصالح تلك الشعوب.
أهمّية الممرّات البحرية
تفضّل واشنطن أن تكون الممرّات البحرية الدولية تحت تصرّف قوى اقتصادية لها مسؤولية عالمية، لتجاوز تهديد الإمدادات الصناعيّة. وهو ما يُبرّر، برأي واشنطن، المُطالبة بضمّ قناة بنما وجزيرة غرينلاند الدنماركية إلى السيادة الأميركية، وهذه أفكار كانت مبرَّرة قبل الحرب العالمية الأولى، لأنّ العالم كان يتكوّن من أممٍ متصارعةٍ وليس دولًا حديثة النشأة.
الحالة العربية تملك جغرافية متميزة وسط العالم ممّا يمنح العرب ورقة ديبلوماسية في ترسيم الخرائط الجديدة
داخل القارّة العجوز، تحرص أميركا الجديدة على التعامل حصريًا بشأن القضايا الأمنية والاستراتيجية والاقتصادية الدولية، مع القوى الأوروبية التقليدية مثل المملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وبدرجةٍ أقلّ إسبانيا، وهو نوعٌ من الخلْط في العلاقات الدولية بين القوة الاقتصادية والجيوسياسية، والتاريخ الحضاري للأمم.
لعلّ ما يُميّز الحالة العربية أنّها تملك جغرافيةً متميزةً وسط العالم، على مداخل محيطات وبحار من مضيق جبل طارق إلى قناة السويس، إلى خليج عدن وصولًا إلى بحر العرب، والخليج العربي، حيث تتحكّم في ثلث التجارة العالمية من الطاقة والمنتجات الاستهلاكية ونصف المصنّعة، ممّا يمنح العرب قوةً يمكن أن تكون ورقةً ديبلوماسيةً في ترسيم الخرائط الجديدة، طالما أنّ للتاريخ والجغرافيا والحضارة حضورًا في النّظام العالمي الجديد.
ترامب يحب الرجال الأقوياء والدول القوية
في تصريح لصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، قال وزير الخارجية السابق أنطوني بلينكن إنّ دونالد ترامب يحب الرجال الأقوياء والبلدان القوية، وبالنسبة إليه، فإنّ روسيا والصين والمملكة العربية السعودية والهند، وبعض القادة مثل رجب طيب أردوغان في تركيا أو فيكتور أوربان في هنغاريا وغيرهما، قد يشتركون في النظام العالمي الجديد، مضيفًا أنّ دولًا أخرى صغيرة نسبيًا مثل كوريا الجنوبية أو إسرائيل تأتي قوّتها من تطوير مواردها البشرية.
وكانت العديد من وسائل الإعلام الأوروبية تساءلت حول أسباب التقارب بين الرئيس ترامب والعالم العربي، ورفْع العقوبات عن سوريا لأول مرة منذ 45 سنة، وجولته في دول الخليج، وصفقات التعاون الاقتصادي والعسكري التي بلغت تريليونات الدولارات، في وقتٍ اكتفى ترامب بزيارةٍ خاطفةٍ إلى روما لتقديم التعازي في وفاة البابا فرانسيس، ولقاء رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني.
تغييرات دولية جذرية متسارعة تستدعي توحيد الجهود والمواقف وتقليص هوامش الخلافات
وكتبت بعض الصحف الأوروبية أنّ أيّ تحالف أميركي - عربي قد يؤدّي إلى تهميش الدور الأوروبي في المنطقة، كما أنّ التقارب بين واشنطن وروسيا يأتي على حساب قضية أوكرانيا التي تعتقدها بروكسل مسألةً وجوديةً تهدّد مصير القارّة كلّها. كما كتبت بعض الصحف العبرية أنّ ترامب اجتمع مع خصوم إسرائيل، واستعملت أخرى معنى قول الشاعر الجاهلي "لماذا لا يأتينا وهو في البيت الذي يلينا". وقال محلّلون إنّ "العلاقة الأميركية مع بعض القوى العربية الصاعدة ستكون على حساب إسرائيل، التي أصبحت عبئًا ثقيلًا في عهد حكومة نتنياهو"، وهذا الاستنتاج أصبح واضحًا بعد الخلافات العميقة بين الرجليْن، حول وقف الحرب في غزّة وضرورة إنهاء معاناة الغزّاويين. وتُحمِّل الدول الغربية "حماس" مسؤولية عواقب طوفان 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتحمّل إسرائيل مسؤولية تجويع وتقتيل المدنيين في غزّة. ويرفض الأميركيون اعتبار الميليشيات المسلّحة أو الحركات الانفصالية أو المتمرّدة بديلًا عن الحكومات الشرعية.
من بغداد إلى الرّباط
استضافت الرّباط (الثلاثاء 20 مايو/أيار) الاجتماع الخامس للتحالف الدولي لتطبيق "حلّ الدولتَيْن" في النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي بمشاركة 50 دولة، بما يدعم فكرة أن تعيش فلسطين وإسرائيل جنبًا إلى جنب في سلام. وهو الحلّ المُتوافق عليه عربيًا وعالميًا. وتمّ التأكيد على "حلّ الدولتَيْن" خلال القمّة الأخيرة التي عُقدت في العراق باعتبارها الطريق السليم، لميلاد شرق أوسطٍ جديدٍ كما بشّر به الرئيس ترامب خلال القمة الاقتصادية السعودية - الأميركية في الرّياض.
المنطقة اليوم أمامها فرص يجب التعامل معها بواقعية الزّمن والمصالح والتحوّلات
وجاء انعقاد مؤتمر الرّباط لإحياء "اتفاقية أوسلو عام 1993"، وقرارات الجمعية العامة واجتماع مدريد. وقال مشاركون إنّ المرجعيات الدولية والأممية تغلق الباب على أي خيارات متطرّفة، لطمس القضية أو تغيير مسارها أو ترحيل سكانها.
قد يكون التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل قوةً خفيةً واستراتيجيةً لممارسة ضغطٍ متزايدٍ من الرأي العام الدولي، بضرورة وحتمية قيام الدولة الفلسطينية، وعاصمتها القدس الشرقية. وهو ما أصبحت تُنادي به عواصم وازنة داخل الاتحاد الأوروبي، وكان الأمر صعبًا قبل سنوات قليلة.
فرص وتحدّيات
خلال قمّة الدول العربية في بغداد الأسبوع الماضي، تمّ التوقف عند التحدّيات الأمنية والتحوّلات الجيوسياسية الإقليمية، والفرص المتاحة في ظلّ تغييرات دولية جذرية متسارعة، تستدعي كلّها توحيد الجهود والمواقف، وتقليص هوامش الخلافات، التي شكّلت ملامح الحقبة الماضية بكل هزائمها ومرارتها.
المنطقة اليوم، أمامها فرص يجب التعامل معها بواقعية الزّمن والمصالح والتحوّلات. كلُّ تَشَبُّهٍ بمرجعياتٍ بائدةٍ سيزيد في هوّة الخلاف، ويُضعف المواقف العربية ويجعلها جُزُرًا يمكن الانقضاض عليها فرادى كما حدث في تاريخ الأندلس.
(خاص "عروبة 22")