هو المعرض، الذي تغلّب على الاجتياح الإسرائيلي حين داهم بيروت عام 1982، وعلى مخاوف الانفجارات وأجواء التوتّرات الأمنية، والتفجيرات وصمد "عميدًا" للمعارض العربية.
لم تفقد بيروت الأمل في صناعة الكتاب العربي وتوزيعه، الكتاب الذي كانت عاصمته الأولى، والصورة في المعرض الجديد تؤكّد على نفسِها مع الأجيال الشابة للاستمرار والتراكم على التجارب السابقة في زمنها الذّهبي في الخمسينيّات والستينيّات، وفي مستوى الحدث الثقافي الذي يكتب للعاصمةِ دورها، قوميًّا ووطنيًا، ويعزّز مصداقيتها مختبرًا للأفكار والاتجاهات الأدبية والسياسية والفنّية والاجتماعية.
ندوة تبحث عن "الاتحاد العربي" في ظروف شائكة تعيشها المنطقة
تعود الناس بقوةٍ وغزارةٍ إلى وسط بيروت في الواجهة البحريّة "سي سايد أرينا"، كأنّها تريد أن تكتشف مكانًا تعرفه، أو تعود إلى مكانٍ أحبّته. تؤكّد مدى انفتاحها ومدى "مدينيّة" المدينة، مع ما يترافق ويقارب 60 نشاطًا على مدى أيامٍ عشرة، بين ندوةٍ وأمسيةٍ وحوارٍ ومحاضراتٍ على "منصّة لكلّ العرب" في المجازات الموحية لعنوان الندوة المشتركة التي أقامتها منصّة "عروبة 22" بالاشتراك مع النادي الثقافي العربي، وهي ندوة تبحث عن "الاتحاد العربي، رؤية، مسار، معوقات وآفاق"، المهمّة التي تكاد تكون شبه مستحيلة، كما ورد في أوراق المتحدّثين، مدحت نافع وخالد زيادة وعبد الرحمن أياس، ومداخلة رئيس الحكومة اللبناني الأسبق فؤاد السنيورة والناشر غسان البلبل، في ظروفٍ شائكة تعيشها المنطقة، ولا تُحسد عليها في تاريخٍ جُرِحَ من قدسيّة القضية الفلسطينية، وفي ظلّ حرب غزّة المشتعلة قتلًا وتهجيرًا وتنكيلًا من برابرة الاحتلال الإسرائيلي وجنونهم وقسوتهم على الشعب الفلسطيني بعد عملية "طوفان الأقصى". وذلك في رحلة الكتاب إلى ضفّة العنف الأخرى والمواقف والآراء.
إنّها بيروت الرّاسخة في مبادئها وأفكارها الجذريّة، ترجمةً دقيقةً للمعاني والإيحاءات والمُناخات وإيقاعات اللغة العربية وسحرها وألفتها في عمق الاحتمالات الداخلية والاجتماعية، خارج كلّ أشكال الرّقابة من السلطة الدينية والسياسية والاجتماعية والإيديولوجيات السائدة، تحافظ على ما يمكن أن يكون بدايةً جديدةً مع الناس التي تزور المعرض وتتكلم لغةً تشبهها. وتحدّد وإلى حين، ما يجب أن تعود فيه إلى حرّياتها وانفتاحها وخلفيّاتها الثقافية والاجتماعية بتلك الهوامش الجميلة والمتفائلة.
بيروت عنوانٌ مستمرٌ للمفاجأة، لم يستسلم كتابها، وهو يواجه صعوباتٍ من نوعٍ آخر، كأن يكون لنقابة اتحاد النّاشرين اللبنانيين معرضها الخاصّ، ولجهة تمنّع الدّور عن الإحجام عن المشاركة، منها "هاشيت - أنطوان" و"مكتبة لبنان" و"الرافدين" و"المكتبة الشرقية"، ودور نشر عربية غيرها، وأن يبقى الكتاب رهينةً أحيانًا لمُنازلات السياسة وتجاذباتها، إلى منافسة المعارض العربية الكبرى مشرقًا ومغربًا.
اللّافت الأنشطة المتنوّعة في هذه الدورة من المعرض
لا يمكن القول إنّ تغييرًا كبيرًا طرأ على عناوين الإصدارات ومواضيعها واتجاهاتها وماهيّاتها، باستثناء أصوات روائية لبنانية وعربية صاعدة، ولا يمكن تفسير ازدهار ظاهرة حفل التواقيع التي طغت منذ سنوات للقول إنّ الثقافة والقراءة تسعى إلى ترسيخ وجودها وعودة دور المثقّف ليعبّر عن مكنونات الحداثة ومخزوناتها واحتمالاتها وتياراتها واتجاهاتها الحديثة والمعاصِرة. تلك الروح التي عاشتها المدينة في أوضاعٍ مختلفةٍ واقتُلعت منها لسنواتٍ طويلة، أو الحسم بأنّ أمورًا كثيرةً تغيّرت في العمق، أو أنّ الأزمة تتغيّر في نصّ الكتاب السابِر لطقوس المدينة العربية والجغرافيا والحساسيّات، التي تحمل قراءاتها الخاصة وتناقضاتها على مساحةٍ من الحرب وجنونها وأبطالها.
مع ذلك، تريد الناس أن تلقيَ النّظر على الكُتُب التي برزت من خلالها أسماء عديدة، وأفضل الطرق لإبراز هذه الأعمال هو المعرض في غيابٍ لدور المكتبات العربية على مساحة تواصلٍ أوسع. كما أنّ المعرض يستقبل هذه السنة خمسة معارض فنيّة تشكيليّة، أحدها للغرافيك تُنظّمه الجامعة الأميركية في بيروت، وآخر عن تاريخ السينما، وثالث عن طرابلس عاصمةً عربيةً للثقافة، وثمّة معرض رابع عن الكتاب العربي، وآخر خُصّص لغزّة. وكان اللّافت الأنشطة المتنوّعة في هذه الدورة، ومن بينها ندوة مخصّصة لمجلة "العرفان"، وأخرى تحيةً لروح الشاعر شوقي أبي شقرا، و"مئوية ملوك العرب" لأمين الريحاني، ومئوية سليمان البستاني، ومرور نصف قرن على وفاة "كوكب الشرق" أم كلثوم، ومئوية توفيق الباشا أحياها نجله الموسيقي العالمي عبد الرحمن الباشا في الجامعة الأميركية (الأسّمبلي هول)، وندوة لذكرى رحيل الروائي إلياس خوري.
"كتاب بيروت" لن يموت وسيبقى معقل التنفّس والتعبير والتنوّع
إنّه معرض الكتاب العربي بنصوصه وكتّابه وأعمالهم في المجالات الأدبية والفنّية كافّة، دائمًا يفاجئنا بحضور النّاس وتدفّقهم من كلّ المناطق والمواقع والفئات، يستطيع أن يصنع حضوره بتلك العلاقة مع الكتاب والمنصّة والإبداع والموقف والصمود، والإيمان بأنّ كتاب بيروت في ذلك الفضاء الواسع والمجتمع المفتوح لن يموت، وسيبقى معقل التنفّس والتعبير والتنوّع. رؤية لبنان ضمن رؤى عربية طليعيّة، وإنْ جزئيًا، وإنْ على تفاوت.. لكنّها لغة تُمثّل تلك الحاجة المُلحّة لتنخرط فيها بيروت في محيطها العربي القريب ومن أعرافها الرّاسخة في الحداثة، وهي لطالما كانت جزءًا من حركة التنوير وأوجه النهضة العربية.
(خاص "عروبة 22")