يبدو أنّ الغرض الواضح من هذا الاتفاق هو إعطاء ترامب نصرًا معنويًا، ففي العام 2035 سيكون هو خارج السلطة وربّما خارج الحياة نفسها، وستكون مياه كثيرة قد جرت، وأشياء كثيرة قد تغيّرت بصورةٍ تُتيح لأوروبا تعديل الاتفاق في حدود متطلّبات الهيمنة العالمية التي تُعَدُّ منطلقًا مركزيًا لسياسات الحلف، الذي يُعدّ تجسيدًا لهوَس الاستحواذ والهيمنة الذي لم ينقطع مهما تغيّرت أشكاله، منذ العهد الاستدماري وحتى الآن!.
الإنفاق العسكري الراهن للناتو وهوَس الهيمنة الإمبريالية
بلغ عدد سكّان دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) الـ32، نحو 981 مليون نسمة، بما يوازي نحو 12% من عدد سكان العالم. وبلغ النّاتج المحلي الإجمالي لدول الحلف المحسوب بالدولار وفقًا لأسعار الصرف السائدة، نحو 55.2 تريليون دولار تُعادل نحو 50% من الإجمالي العالمي المحسوب بهذه الطريقة. وبلغ ناتجها المحسوب بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية نحو 66.1 تريليون دولار تُعادل نحو 33.7% من الإجمالي العالمي المحسوب بهذه الطريقة عام 2024.
إنفاق حلف "الناتو" العسكري يستهدف استخدام القوّة لفرض إرادته على الدول الأخرى ومن ضمنها العربية
وهذه الثلّة من الدول (دول حلف الناتو) التي تُشكّل أقلّ من ثُمن سكان العالم، وناتجها الحقيقي حوالى ثلث الإجمالي العالمي، خصّصت نحو 1341 مليار دولار للإنفاق العسكري المباشر، ما يُعادل نحو 55% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي. وبالتالي فهي الأكثر عسكرة في العالم، من قَبْلِ قرارها الأخير بزيادة الإنفاق العسكري الذي سيتضاعف لدى تطبيق النّسبة الجديدة، وهو ما يؤشّر إلى أنّ إنفاقها العسكري يتجاوز مُتطلّبات الدفاع، ويستهدف بشكلٍ واضحٍ الهيمنة العالمية، واستخدام القوّة لفرض إرادة دول الحلف على الدول الأخرى، ومن ضمنها الدول العربية المُتخمة بموارد الطاقة والتي تمرّ فيها أهم مسارات التجارة العالمية، وذلك من خلال القوة العسكرية. مثلما فعلت كلّها أو بعضها من قبل بالعدوان على العراق تحت مبرّرات كاذبة، والعدوان على إيران بشأن برنامجها النووي الخاضع للتفتيش أصلًا، من دون أن يفكّر الحلف في مراقبة أو تفتيش أو المسّ بالبرنامج النووي الصهيوني وما أنتجه من أسلحةٍ نوويةٍ تُشكّل ابتزازًا لكلّ دول المنطقة، خصوصًا بعد أن انفلت عيار الكيان الصهيوني وتخلّى أحد كبار مسؤوليه (وزير المالية) عن سياسة "الغموض النووي"، وطالبَ باستخدام الأسلحة النووية ضدّ الشعب الفلسطيني في غزّة.
الإفراط الأميركي والشحّ الأوروبي يبرّران هيمنة واشنطن على الحلف
يشكّل الإنفاق العسكري الأميركي أكثر من ثُلْثَي الإنفاق العسكري لحلف الناتو، على الرَّغم من أن النّاتج المحلي الإجمالي الأميركي لا يزيد عن 52.9% من النّاتج المحلي الإجمالي لدول الحلف المحسوب بالدولار وفقًا لسعر الصرف، ونحو 44.2% من ناتجه المحسوب بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية.
الولايات المتحدة هي التي تنفق وتحمي وتقود الهيمنة العالمية لحلف "الناتو"
ويتراوح الإنفاق العسكري الأميركي خلال السنوات الأخيرة ما بين 3.3% و3.5% من النّاتج المحلي الإجمالي الأميركي، وهو ضعف النسبة التي تخصّصها باقي دول الحلف للإنفاق العسكري والتي تقلّ عن ثلث الإنفاق العسكري للحلف، علمًا أنّ النّاتج المحلي الإجمالي لتلك الدول بلغ 26 تريليون دولار بما يعادل 47.1% من إجمالي ناتج دول الحلف عام 2024. والنتيجة المنطقيّة لذلك الوضع هي هيمنة الولايات المتحدة على الحلف وقراراته فهي التي تنفق وتحمي وتقود الهيمنة العالمية (الإمبريالية) للحلف.
النّموذج العسكري الصيني... الإنفاق بقدر احتياجات الدفاع والمصالح الوطنية
تُعتبر الصين ثاني أكبر دولة في الإنفاق العسكري بعد الولايات المتحدة. وقد بلغ عدد سكانها عام 2024 نحو 1408 ملايين نسمة، بما يوازي نحو 17.4% من سكان العالم أي قرابة مرّة ونصف قدر عدد سكان دول حلف الناتو. وقد بلغت قيمة الإنفاق العسكري الصيني نحو 235 مليار دولار، أي ما يُعادل 1.3% فقط من النّاتج المحلي الإجمالي الصيني المحسوب بالدولار وفقًا لسعر الصرف، ونحو 0.6% من الناتج الحقيقي المحسوب على أساس تعادل القوى الشرائية، وهو مكرّسٌ لحماية الدولة والشعب والمصالح الوطنية من دون نزوع للهيمنة العالمية.
ضرورة تخصيص قدر معتدل من الموارد للإنفاق العسكري مع استنهاض الطاقات العلمية الوطنية لتطوير القدرات الدفاعية
كما يُعادل الإنفاق العسكري الصيني نحو 9.6% من الإجمالي العالمي، ونحو 17.5% فقط من الإنفاق العسكري لدول الناتو. وعلى الرَّغم من ذلك تُثير الولايات المتحدة الصخب حول زيادة الإنفاق العسكري الصيني متهمةً بكين بأنّها تسعى للهيمنة على شرق آسيا وتهدّد تايوان وهي إقليم صيني أصلًا، وهي "مسخرة" حقيقية أن يأتيَ الاتهام من الولايات المتحدة التي تبلغ حصّتها من الإنفاق العسكري العالمي تسعة أمثال حصتها من سكّان العالم، بينما تبلغ حصة الصين من الإنفاق العسكري العالمي ما يزيد قليلًا عن نصف حصتها من سكان العالم (55%)!.
الإنفاق العسكري والتنمية الاقتصادية والاجتماعية
يُعتبر جدوى الإنفاق العسكري وتأثيره في الخصم من متطلّبات تمويل التنمية الاقتصادية والإنفاق على قطاعات التنمية الإنسانية في مجالات الصحة والتعليم ودعم الفقراء، مادةً دائمةً للجدل العِلمي والعملي. وإذا افترضنا عالَمًا مثاليًا لا توجد فيه نوازعٌ للاستحواذ والغزو والاعتداء من دولةٍ على دولةٍ أخرى، فإنّ الإنفاقَ العسكريّ إجمالًا يُصبح إهدارًا حقيقيًا للموارد.
وبما أنّ العالم مُتخمٌ بتلك النّوازع وبخاصةٍ من الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة ومن الكِيان الصهيوني، فضلًا عن نزاعات الحدود الموروثة من العهد الاستدماري، فإنّ النظرة الواقعية للأمور تقوم على ضرورة تخصيص قدرٍ معتدلٍ ومقبولٍ من الموارد للإنفاق العسكري في حدود ما يتطلّبه تحقيق الأمن وضمان سلامة أراضي الدولة وحدودها وشعبها وأصولها الاقتصادية، مع استنهاض الطاقات العلمية الوطنية لتطوير القدرات الدفاعية لمواجهة التطوّر الهائل في منظومات الأسلحة. وأي إنفاق عسكري يزيد على ذلك، يُعتبر إهدارًا للموارد لصالح المجمّع الصناعي العسكري ومستوردي الأسلحة والفساد البيروقراطي.
(خاص "عروبة 22")