مراجعات

التكنولوجيا السياسية: كيف تجعلنا التكنولوجيا جنودًا

في فعاليات مؤتمر دولي مخصّص لمعضلة الذكاء الاصطناعي، نُظم في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنّ "البشرية دخلت حقبة جديدة من وجودها مع استخدام الذكاء الاصطناعي"، مضيفًا أنّه "من المستحيل حظر الذكاء الاصطناعي، وإذا حظرناه سوف نتخلّف عن الركب"، في إشارة إلى محاولات لحظر تطوير الذكاء الاصطناعي خشية خروجه عن سيطرة الإنسان.

التكنولوجيا السياسية: كيف تجعلنا التكنولوجيا جنودًا

لم تكن تلك المرة الأولى التي ينخرط فيها بوتين شخصيًا في الإدلاء بمواقف صريحة بخصوص التحديات أو القلاقل المرتبطة بهذه الثورة الرقمية، بحيث سبق له أنه صرّح بأنّ من سيقود "الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم، لأنّ الذكاء الاصطناعي هو المستقبل ليس فقط بالنسبة لروسيا بل لكل الإنسانية".

ماذا عن صنّاع القرار في الوطن العربي، أو على الأقل الحكومات العربية في معرض التفاعل مع الموضوع نفسه؟

هذا أمرٌ متروكٌ للمتتبعين، وإن كنا نعاين بعض المبادرات في هذا السياق خلال السنوات الماضية، موازاةً مع ما يصدر عن الأقلام البحثية العربية التي شرعت في الاشتغال على الموضوع، كما هو الحال مع الثنائي فاطمة رومات ويحيى اليحياوي في المغرب على سبيل المثال، أو أسماء أخرى في الدول العربية، على قلّتها.

في هذا السياق، نعاين أعمالًا بحثية لأقلام أوروبية وأميركية من أصل عربي، نادرًا ما يتم تسليط الضوء عليها، وهذا أمرٌ منتظرٌ لعدّة اعتبارات، أقلّها تواضع مؤشر ثقافة الاعتراف لدينا في الوطن العربي، حتى فيما بيننا، فكيف ننتظر ارتفاع المؤشر نفسه اتجاه الأقلام الغربية من أصل عربي.

في مقدمة الباحثين المشتغلين على الموضوع، توجد الباحثة الفرنسية من أصل تونسي أسماء مهلا، وهي باحثة مشاركة في مختبر الأنثروبولوجيا السياسية، بشراكة مع المركز الوطني للبحث العلمي، خبيرة في معهد مونتين الليبرالي، وصدر لها مؤخرًا هذا العمل النوعي الذي يحمل عنوان "التكنولوجيا السياسية: كيف تجعلنا التكنولوجيا جنودًا". كما تعمل مهلا كمستشارة لدى عدة حكومات ومؤسّسات أوروبية، وفي صيف عام 2023 أنتجت وقدّمت برنامجًا على فضائية "فرانس أنتير"، كان مخصّصًا لثنائية السلطة والعالم الرقمي.

تطرق الكتاب لقضايا حساسية، ذات صلة بحقول السياسة والأمن والاقتصاد، وما يمكن أن تقدّمه الثورة الرقمية اليوم، وفي مقدّمتها الذكاء الاصطناعي، في سياق خدمة الصالح العام محليًا وإقليميًا، فالأحرى دور الثورة نفسها في الصراعات الإقليمية والاستراتيجية، بخاصّة الصراعات القائمة بين القوى العظمى، ولهذا سلّطت المؤلفة الضوء على تبعات التحوّل من الاستخدامات المدنية للثورة الرقمية إلى الاستخدامات العسكرية، من قبيل استخدام الأسلحة عن بُعد والطائرات بدون طيار، على خلفية تجدد الحرب الباردة مع الصين كبديل وظيفي للاتحاد السوفيتي.

ترى المؤلفة أنّ الذكاء الاصطناعي والشبكات الاجتماعية والأقمار الصناعية، و"الميتافيرس"، مؤشرات على "صدمة تكنولوجية" تُميّز أهم قضايا القرن الحادي والعشرين، مع وقفات نقدية ضد عمالقة "الغافا" أو "الغافام"، أي إمبراطوريات "غوغل" و"أمازون" و"فيسبوك" و"آبل" و"مايكروسوفت"، باعتبارها "كيانات هجينة تعيد تشكيل مورفولوجيا الدول، وتعيد تعريف ألعاب القوة، والقوة بين الدول، وتتدخل في الحرب، وترسم حدودًا للسيادة الوطنية".

وإذا كانت إمبراطوريات "الغافام" هذه في قلب تصنيع القوة الأمريكية في مواجهة الصين، فإنّها توجد أيضًا في مقام العمالة المدللة للممارسة الديمقراطية، ومن هنا، دعوة المؤلفة إلى تأمل العلاقات الوطيدة بين هذه الإمبراطوريات [BigTech] والدول العظمى [BigState] من أجل "توليد نسخة جديدة من لفياثان برأسين، مدفوعة بالرغبة في السلطة خارج الحدود"، والإحالة هنا على الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة أو اللفياثان عند توماس هوبز.

ترى أسماء مهلا أنّ "التكنولوجيا اليوم، أصبحت عسكرية وتتلاعب بأدمغتنا، بما يتطلب منا إعادة النظر في تفاعلنا معها، وبالتالي تسييس رؤيتنا للموضوع بكل كلّي" عبر الدعوة إلى "بديل ديمقراطي جديد، يتجاوز السقف الديمقراطي القائم حاليًا"، ومرد ذلك أنّ هذه التقنيات "فائقة السرعة، تهدد الديمقراطيات الليبرالية، وتتسلل إلى أدنى فجوات في حياتنا، لدرجة إفساد بناء نظام مشترك للحقيقة من الداخل".

توقفت المؤلفة مليًّا عند الوزن المالي للتكنولوجيا الكبرى وعلاقات الشراكة التي تجمعها مع البنتاغون، كأنها استبقت ما عايناه لجهة الناخب الأميركي والرأي العام العالمي قبيل فوز الرئيس دونالد ترامب، مع تأكيد التحالف الصريح بين فاعل سياسي وأحد رموز تلك الإمبراطوريات، إليون ماسك، صاحب منصة "إكس" ("تويتر" سابقًا).

لا تتردد أسماء مهلا في وصف مشاريع "وادي سيليكون"، حيث توجد أغلب إدارات إمبراطوريات "الغافام"، بأنّها "إيديولوجيات سامة"، طويلة الأجل، منتقدة بشدة "هوس هذه المؤسسات بالمراقبة المُعَمّمة والتجسس الشامل وخرق الحياة الخاصة"، وتتوقع أنّه بحلول عام 2026، من المتوقع أن تبلغ قيمة السوق العالمية للتعرّف على الوجه أكثر من 11 مليار دولار، ضمن أرقام أخرى تتطلب الكثير من التأمل لأنّها تثير الرهبة إن لم تكن تثير الفزع، وإن كان الكتاب يستهدف على الخصوص القرّاء الذين ينهلون أكثر من أدبيات العلوم السياسية.

بالعودة إلى العنوان الفرعي للكتاب، ترى المؤلفة أنّه مع "التقنيات فائقة السرعة، المدنية والعسكرية، فإنّنا نصبح بالضرورة، جميعًا، في مقام الجندية، رغمًا عنّا، لأنّ أدمغتنا أصبحت ساحة المعركة النهائية عند تلك المؤسّسات، ومن الأهمية اليوم التفكير الجماعي في الأمر لأنه ليس أقل من النظام العالمي الجديد المعرّض للخطر، بل إنّه يهدّد الديمقراطية بشكل مباشر".

من باب تقديم بعض الاقتراحات العملية لمواجهة هذه الإكراهات، تقترح أسماء مهلا أخذ مسافة من "عقلية السذاجة" كلما تعلق الأمر بالتعامل مع الثورة الرقمية، موازاةً مع ما اصطلحت عليه "تسليح المواطن والجندي معرفيًا، وتعلّم الإبحار في العالم الرقمي بوعي"، تأسيسًا على "ديمقراطية تكافلية" تخدم مصالح الجميع.

من الاقتراحات أيضًا، دعوة أسماء مهلا القارئ للفوز في معركة الخيال والروايات ورد الاعتبار لقيم الانتماء والمقاومة، بحيث تبدأ شخصية "المواطن الجندي" الذي من شأنه مواجهة هذه المخاطر، والدفاع عن القيم الديموقراطية البديلة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن