تعتبر واشنطن ليبيا منصة طاقةٍ حيوية وجسرًا جغرافيًا بين أفريقيا وأوروبا، أكثر من كونها دولة تحتاج إلى إعادة بناء مؤسّساتها السياسية. وتجلّى هذا التوجّه في تحرّكات مسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترامب للشؤون الأفريقية، وفي مُخرجات اجتماع الدول العشر على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث بدا واضحًا أنّ الاقتصاد والأمن يُشكّلان بوّابة التدخّل، فيما تُترك المسارات السياسية للأمم المتحدة ضمن نطاق رمزي أكثر من كونه عمليّا.
وخلص بعض المراقبين إلى اعتبار أنّ هذا الاجتماع كان هامشيًا وبتمثيل ضعيف، ولن يغيّر كثيرًا في مسار الانتخابات أو خريطة الطريق الأممية، ورأوا أنّ تركيز واشنطن ينحصر في الملفات العسكرية والاقتصادية وحماية مؤسّسات الدولة المالية والنفطية، بينما يغيب الاهتمام السياسي الحقيقي.
وعقب الاجتماع، لفت بولس الذي تُصنّف تحركاته على أنّها شخصية ومحدودة التأثير، إلى أهمية استقرار ليبيا، مشيرًا إلى ما وصفه بـ"الفرص الكبيرة" التي توفّرها كمصدرٍ للطاقة وجسرٍ بين أفريقيا وأوروبا، مع التركيز على تعزيز الأمن الطاقوي وتقليل الهجرة غير النظامية.
وركّز البيان الصادر عن اجتماع كبار المسؤولين من دولٍ مؤثّرةٍ (مصر، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، قطر، السعودية، تركيا، الإمارات، بريطانيا) على الشقَّيْن الأمني والاقتصادي، أكثر من الجانب السياسي، إذ أكّد على أهمية دمج الشرق والغرب أمنيًا عبر التدريب والمساعدة التقنية بعد تعديل حظر السلاح الأممي، بما يعزّز قدرة ليبيا على حماية نفسها.
كما شدّد البيان على دعم المؤسّسات الاقتصادية، واعتبر أن الاستقرار الاقتصادي شرط أساسي لتحقيق الوحدة السياسية، وخلق بيئة استثمارية آمنة، وحماية الموارد الوطنية.
واكتفى البيان بإعادة التأكيد على دعم خريطة الطريق الأممية وجهود المبعوثة هانا تيتيه، لكنّ البُعد السياسي بدا مُكمّلًا للتركيز الأوسع على الاقتصاد والأمن.
عكس البيان رؤيةً أميركيةً ودوليةً، تعتبر أنّ الطريق إلى استقرار ليبيا يمرّ عبر الاقتصاد والمؤسّسات والسيطرة الأمنية، بينما السياسة تأتي في المرتبة الثانية.
وأكّد بولس الطابع الاقتصادي لزيارته إلى ليبيا، حيث ركّز على الشراكات الاقتصادية في مجالات الطاقة والبنية التحتية لمشاريع النفط في ليبيا، مُكتفيًا بإطلاق عبارات طنّانة لا تحمل أي رؤية مُحدّدة، عبر قوله إنّ بلاده تعمل على توحيد ليبيا وجمع طرفَيْ الصراع.
ومثّلت زيارة بولس في مُجملها مؤشرًا أميركيًا إلى البراغماتية والمصالح المباشرة، إذ ركّزت على تعزيز شراكات الطاقة مع كلّ من الشرق والغرب واحتواء النفوذ الروسي والصيني، من دون تقديم رؤية واضحة لحلّ الانقسام السياسي.
وعليه، كان طبيعيًا أن يعتبر القائم بالأعمال الأميركي جيريمي برنت، لدى لقائه رئيس "مؤسسة النفط" مسعود سليمان، في طرابلس، أن وجود مؤسسة نفط وطنية قوية أمر أساسي لتحقيق المزيد من الازدهار والفرص الاقتصادية للشعب الليبي وشركائه الدوليين.
المخاوف الأمنية
لكنّ مواصلة السفارة الأميركية في طرابلس عملها من تونس، بالإضافة إلى استمرار المخاوف الأمنية التي تواجه المسؤولين والديبلوماسيين الأميركيين خلال تنقّلاتهم في ليبيا، يُسلّط الضوء على هشاشة الوضع الأمني، حيث بات اعتياديًا تحليق طائرات عسكرية أميركية ضمن تدابير أمنية مشدّدة.
#أوج #طرابلس
— أوج (@jana1964ly) September 17, 2025
أظهر رصد حركة الطيران فوق الأجواء الليبية تحليق طائرات استطلاع لمراقبة سواحل #ليبيا منذ ليلة البارحة حتى اليوم، استعدادا لزيارة وفد أمريكي إلى العاصمة طرابلس. pic.twitter.com/vtzfmyk1XR
وربّما مثّل الإعلان المفاجئ للسفارة الأميركية عن تقليص نشاطها الإعلامي وتوقّف التحديثات المُنتظمة لحسابها على منصّة "إكس" بسبب توقّف التمويل الحكومي، مع التركيز فقط على المعلومات الأمنية العاجلة، النهج البراغماتي الأميركي تجاه ليبيا، على الرَّغم من الدعوات لإنهاء الجمود السياسي الداخلي، عبر انخراط أميركي يحدّ من نفوذ روسيا والصين.
يعترف تقرير الكونغرس الأميركي بأنّ انشغال الولايات المتحدة بليبيا، يظلّ مرتبطًا أساسًا بالمصالح النفطية والأمنية، بينما يبقى الانخراط في مسار الحلّ السياسي محدودًا وعَرَضِيًا، فأولوية واشنطن تتركّز على حماية استقرار أسواق الطاقة ومنع تهديدات الإرهاب والهجرة غير النظامية، أكثر من التورّط الجدّي في معالجة جذور الأزمة السياسية الليبية.
ويذكر التقرير نفسه الجانب السياسي، بشكلٍ ثانويّ، مشيرًا إلى دعم واشنطن للعملية التي ترعاها الأمم المتحدة، لكن من دون التزام قوي أو دور قيادي مباشر، على الرَّغم من اعتبار التدخّلات الخارجية، خاصةً من روسيا، تحدّيًا للمصالح الأميركية.
التحدي الروسي
في هذا الإطار، تمثّل روسيا عقبةً محوريةً أمام إعادة ضبط السياسة الأميركية في ليبيا، إذ وسّعت موسكو نفوذها في شرق البلاد، للحدّ من قدرة واشنطن على إعادة هيكلة المشهد الليبي وفق رؤيتها.
وعلى الرَّغم من نفيهما، تنهمك واشنطن في مفاوضاتٍ جانبيةٍ مع حكومة الوحدة في الغرب الليبي، برئاسة عبد الحميد الدبيبة، حول التطبيع الذي بدأته مع إسرائيل، وقبول تهجير فلسطينيين من قطاع غزّة، واستقدام مهاجرين مطرودين من الولايات المتحدة.
الجمود الدائم
وبينما تعيش ليبيا حالةً من الجمود المؤسّساتي والعنف شبه المستمر، بحثًا عن ترتيباتٍ مؤقتةٍ تُدير الأزمة أكثر ممّا تحلّها، تبدو السياسة الأميركية أقرب إلى إدارة هذه الأزمة، عبر مزيجٍ من الضغط الاقتصادي والأمني ومحاولة موازنة نفوذ روسيا والصين.
لكنّ هذا النهج القائم على تسكين الأزمات بدلًا من معالجتها جذريًا، ويخدم نسبيًا المصالح الأميركية، يترك مستقبل الاستقرار مرهونًا بكسر حلقة الجمود الداخلي، وعدم إعادة إنتاج الأزمة بأشكال جديدة.
(خاص "عروبة 22")