لخّصت تلك الواقعة، التي جرت بالمصادفة وحدة الوجدان العربي، فالفرقة لبنانية والكورس مغربي والأغنية مصرية. قوّة حضور وإلهام أم كلثوم الممتد في العالم العربي كظاهرة فنية – هنا – بالضبط.
بالجهل والتعسف مُنعت أوائل خمسينيات القرن الماضي إذاعة أغنية أم كلثوم "ولد الهدى" على أثير "صوت العرب"، بحجّة أنّ الثورة ألغت الملكية وألقاب الأمراء في اعتراض على كلمات وردت في القصيدة المغنّاة لـ"أحمد شوقي"!
لم تكتسب نفوذها الأدبيّ من سلطة، وساعدها ذكاؤها الفطري في تطوير قدراتها وملاحقة العصور المتغيّرة
ثم بدا للرقيب العسكري أن يلغي سجلّها الغنائي كلّه من البثّ على بقيّة الموجات الإذاعية بدعوى أنها تنتسب لـ"العهد البائد"، على ما روى في مذكّراته غير المنشورة مؤسس "صوت العرب" أحمد سعيد.
بنصّ توبيخ جمال عبد الناصر للرقيب العسكري: "لم يتبقّ أمامك غير أن تذهب بجنودك لهدم الهرم الأكبر فهو أيضًا من العهد البائد!".
لم يكن ذلك التعبير رمزيًا بقدر ما كان تلخيصًا لنظرته إلى أم كلثوم هرمًا أكبر يُلهم صوتها الوجدان العربي المشترك.
كان هو نفسه مفتونًا بصوتها، يحفظ أغانيها، ويردّدها كلّما أتيحت الفرصة أمامه أن يختلي بنفسه.
ثم أنه كان يدرك أهمية الدور المحوري الذي يمكن أن يلعبه الفن في كسب القلوب إلى القضايا الكبرى والمعارك التي تنتظر البلد.
لم تكتسب أم كلثوم نفوذها الأدبيّ من سلطة، أيًا كانت تلك السلطة، وساعدها ذكاؤها الفطري في تطوير قدراتها وملاحقة العصور المتغيّرة.
قوّتها الأخلاقية لاحقت فرادتها الفنية.
حافظت على صداقاتها، إذا ما تغيّرت العصور والأحوال.
"فيها شهامة الريف المصري"، بتعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل.
التقت حنجرة سيّدة الغناء العربي أم كلثوم بألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب - لأول مرّة - في أغنية "أنت عمري" بطلب من عبد الناصر.
شارع شبرا توقفت حركة المرور فيه، والمصريون انشغلوا يومها بالحدث الفني، الذي وصفه الناقد الفني جليل البنداري بـ"لقاء السحاب".
عبد الناصر استمع للأغنية من راديو سيارته وهو متوجّه لاستراحة برج العرب.
لزم أولاده الصمت ولم يتبادلوا الحديث في الرحلة على الطريق.
في الخميس الأول من كل شهر كان يستمع – بمفرده - لحفلة "ثومة" المذاعة على الهواء مباشرة أثناء قراءة التقارير الرسمية والصحف، كما روى صديقي الراحل الدكتور خالد عبد الناصر.
لا يمكن إنكار دور صوتها العبقري في توحيد العالم العربي أمام التحديات الوجودية
في المسلسل التلفزيوني "أم كلثوم" حاول السيناريست الكبير محفوظ عبد الرحمن أن يُمسك بخيوط قصّة نجاحها للإجابة على سؤال واحد: كيف تمكّنت رغم ظروفها القاسية من أن تصل إلى المكانة التي وصلت إليها؟
قصة نجاحها بذاتها ملهمة لقدرة الإنسان على التحدي وتذليل كل الصعاب.
منذ ثلاثينيات القرن الماضي حمل أثير الإذاعة عبقرية صوتها إلى كل مكان في العالم العربي.
في الخمسينيات والستينيات كان صوت عبد الناصر يدوي بنداء العروبة وصوت أم كلثوم يضفي على المشهد وحدته الوجدانية.
لا يمكن إنكار دور صوتها العبقري في توحيد العالم العربي أمام التحديات الوجودية التي كانت تعترضه في سنوات الصراع على المنطقة طلبًا للتحرّر الوطني والاستقلال والوحدة.
كان ذلك عصرًا من الوجدان العربي المشترك.
إذا كان عبد الناصر يلخّص بسياساته ومعاركه الزعامة السياسية للفكرة العروبية، فإنّ أم كلثوم لخّصت الزعامة الفنية للفكرة نفسها.
لم تكن وحدها، لكنها كانت العنوان الأبرز لمصر الكبيرة بأدوارها وأوزانها قبل أن تحلّ الإحباطات المقيمة.
رغم اختلاف الأزمان وانقضاء الأجيال، فإنّ إرثها الغنائي ما يزال الأكثر استماعًا وتأثيرًا في أرجاء العالم العربي، كما لو كان عنوانًا مستأنفًا لما تبقى من أحلام وحدة حلّقت ذات يوم، كأنها لم تغب منذ فبراير (1975).
إذا أردنا أن نلخّص القوة الناعمة المصرية في رمز واحد، فهو "أم كلثوم".
في لحظات الهزيمة، كما لحظات الصعود، برزت سيّدة الغناء العربي في مقدّمة المشهد.
كان ذروة مجدها الدور الذي لعبته أعقاب هزيمة يونيو (1967)، حيث هبّت لدعم وطنها الجريح، قادت حملة ناجحة تبرّعت فيها السيدات ببعض ما لديهن من حلي ذهبية للمجهود الحربي، زارت للغرض نفسه دولًا عربية عديدة غنّت على مسارحها، استُقبلت كما يُستقبل الزعماء العظام بحفاوتين رسمية وشعبية.
أمّة عربية واحدة، ذائقتها واحدة وجرحها واحد
على مسرح الأوليمبيا في باريس عانقت المجد كما لم يعانقه فنان آخر عربي، أو غير عربي، زحفت إلى العاصمة الفرنسية أعداد كبيرة من الجاليات العربية في المدن الأوروبية، ومن العالم العربي نفسه بالطائرات للاستماع إلى سيّدة الغناء العربي.
بهت الفرنسيون بما رأوه يجري أمام أعينهم من مشاهد توحّد في الوجدان مع صوت أم كلثوم.
في لفتة مؤثّرة أرسل لها الزعيم الفرنسي شارل ديجول برقية تحية تقدير قبل أن تغادر طائرتها أراضي بلاده.
كان ذلك مشهدًا استثنائيًا لخّص عصرًا كاملًا من الغناء العربي والوجدان العربي في لحظة تحدّ وجودية، أكدت أننا أمّة عربية واحدة، ذائقتها واحدة وجرحها واحد.
(خاص "عروبة 22")