الحوكمة والديموقراطية

سوريا: الأمل والقلق!

في سنة 1989 صدر لعالم الاجتماع الفرنسي ميشال سورا (Michel Seurat - خُطِفَ واغتيل في بيروت سنة 1986)، كتابٌ شديدُ الأهمية بعنوان "سوريا: دولة التوحّش"، لا يزال يُشكّل أهمّ دراسةٍ علميةٍ حول المرحلة الأسديّة التي انتهت قبل شهور قليلة.

سوريا: الأمل والقلق!

في هذا الكتاب، يُبيّن سورا أنّ النموذج السياسي السوري يختلف عن الدولة الوطنية التعاقدية الحديثة من حيث كونه لا يقوم على الحدّ الأدنى من التوافق الداخلي، بل على الخوف والقمع المُنظّم وتفتيت المجتمع وتدخّل الدولة في كلّ تفصيلات الحياة الجماعية.

في هذا النظام، لا يشكّل الحزب الحاكم (حزب البعث العربي الاشتراكي) جهازًا سياسيًا مركزيًا لتعبئة المجتمع، بل هو نسق سلطوي أمني الغرضُ منه فرض الرّقابة الشاملة على القاعدة الشعبية العريضة، منعًا لأي معارضةٍ أو تمرّدٍ داخليّ.

بواكير التوجّه النهضوي الوحدوي انطلقت من بلاد الشام

في هذا النظام، يقوم النسق الاقتصادي على الزبونية السياسية وتتشكّل المنظومة المجتمعية على أساس التقطيع الهوياتي وفق الطوائف والمعتقدات، بما يسمح للدولة بأن تكون عامل الضبط الأوحد لهذه البنية الخاضعة لإعادة إنتاجٍ دائمة.

لقد مات سورا قبل أن يعيش نهاية هذا النظام الذي كان يعتقد أنّه غير قابلٍ للانهيار، لكن ممّا لا شك فيه أنّ سنوات الثورة الاحتجاجية التي زادت على العقد الكامل، قوّضت بصفةٍ عميقةٍ التوازنات الاجتماعية الهشّة التي قامت عليها الدولة السورية الحديثة التي ترجع إلى الانتداب الفرنسي سنة 1920، وما تلاه من ثورةٍ وطنيةٍ تحرّريةٍ في العشرينيّات قبل استقلال الدولة سنة 1946 ودخولها منذ نهاية الأربعينيّات حقبة عسكرة الحياة السياسية التي لم يكن نظام الأسد سوى المحطة الأخيرة منها.

ما يتعيّن التأكيد عليه هنا، هو أنّ سوريا الحديثة شكّلت مختبر التجارب السياسية للعالم العربي في نقطتَيْن محوريَتَيْن هما انبثاق الإيديولوجيا القومية العربية وبروز الأنظمة العسكرية الانقلابية.

كان لظهور الفكر القومي العروبي من سوريا أسباب وجيهة، فمن المعروف أنّ بواكير التوجّه النهضوي الوحدوي انطلقت من بلاد الشام، وأنّ حزب "البعث" الذي تأسّس في بداية الأربعينيّات كان أهم التشكيلات القومية العربية وقد أصبحت له أذرع في جُلّ البلدان العربية.

الأمل معقود على أن تُقدّم سوريا مجدّدًا نموذجًا نهضويًا إصلاحيًا لعالم عربي يعيش في مخاض التغيّر الجوهري

كما أنّ مختلف الجمهوريات العربية حَكَمَتْهَا أنظمة عسكرية من سوريا إلى مصر والعراق، قبل أن تعمّ التجربة بقيّة الدول، وكانت هذه الأنظمة في الغالب حصيلة تحالفٍ قويّ بين المؤسّسة العسكرية والأحزاب والحركات القومية.

وعلى الرَّغم من مصاعب الوضع السوري الانتقالي الحالي، فالأملُ معقودٌ على أن تُقدّم سوريا مجدّدًا نموذجًا نهضويًا إصلاحيًا لعالم عربي لا يزال يعيش في مخاض التغيّر الجوهري الذي مَسَّ العديد من البلدان في السنوات الأخيرة.

النموذج المنشود هو الحكم الديموقراطي المدني الذي يضمن متطلباتٍ ثلاثة حيويةً وضرورية، هي: التعدّدية السياسية السلمية المكرّسة في تقاليد مؤسّسية ناجعة تضمن التداول الآمن على السلطة. وبناء المؤسّسة العسكرية على أساس القيم الجمهورية والولاء للوطن من دون تحيّز أو غبن، بما يعني إنهاء سيطرة الميليشيات الإيديولوجية والعقدية على الحياة السياسية. وتوفير العدالة الاجتماعية الحقيقية من خلال معايير المساواة والحرية والتضامن.

فرصة ثمينة لإعادة بناء الدولة السورية بعد عقود طويلة من القمع المتوحش والأحادية الإقصائية

لا تزال البلاد بعيدةً كل البعد عن تحقيق هذه المتطلّبات، وما زال الوضع الانتقالي مُحَمَّلًا بمخاطر كثيرة قد تعصف بالبناء السياسي بكامله، لكنّ النّخب السورية أظهرت للجميع حرصها على عدم تفويت هذه الفرصة الثمينة لإعادة بناء الدولة السورية بعد عقودٍ طويلةٍ من القمع المتوحش والأحادية الإقصائية المُحبِطة.

في الأيام الماضية، قابلت شخصيةً سوريةً كانت منفيةً في الخارج ومعارِضةً لنظام الأسد، وقد زارت دمشق مؤخّرًا وقضت فيها أيامًا للاطلاع والتقويم، وقالت لي إنّ الجميع متفقون على النّظر إيجابًا إلى حصيلة التغيير الذي عرفته البلاد في الشهور الماضية، بما يوحي بأنّ دوافع التفاؤل صارت أقوى من نوازع الخوف والقلق!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن