كانت تدخلات دول عربية، كالسعودية، للعب دور الوساطة وتقديم المبادرات من أجل الهدنة الإنسانية وحلّ الخلاف بين طرفي النزاع في السودان، فضلًا عن التوجّهات الإماراتية بتسهيل عملية السلام بين إثيوبيا واريتريا ودعم النظام الإثيوبي في إرساء السلام الداخلي، تعكس اهتمامًا غير مسبوق من دول الخليج العربي الفاعلة بمنطقة القرن الأفريقي بخاصة منذ 2015، حيث بدأت سلسلة من الاستثمارات الاستراتيجية طويلة الآجل في مجال الأغذية والزراعة والطاقة، وكانت إثيوبيا والسودان من أولى الوجهات، وذلك لإمكانياتهما الكبيرة حيث وفرة الأراضي الزراعية الخصبة والموارد المائية أيضًا، وكذلك كانت جيبوتي هدفًا لتعزيز الاستثمارات لتأمين حركة النقل وحماية المصالح الاستراتيجية في البحر الأحمر في ظلّ الوجود الأجنبي الكثيف من قواعد عسكرية غربية في جيبوتي.
في السودان، تشير الأرقام الرسمية إلى استثمار دول مجلس التعاون الخليجي ما لا يقلّ عن 53 مليار دولار خلال عشر سنوات، الجزء الأكبر منها في القطاع الزراعي، حيث تمتلك السعودية استثمارات بلغت نحو 35.7 مليار دولار، تتركّز معظمها بقطاع الزراعة من خلال دعم 250 مشروعًا تزوّد المملكة بكميات كبيرة من المنتجات الزراعية ورؤوس الماشية، إذ وصل حجم التبادل التجاري بين الرياض والخرطوم 8 مليار دولار.
تستورد السعودية 6% من إجمالي الصادرات الإثيوبية سنويًا
كما تستثمر الإمارات 7 مليارات دولار بالسودان، منها 6 مليار دولار في القطاع الزراعي، وتمتلك الكويت أيضًا استثمارات تبلغ 7 مليار دولار، وتستثمر قطر 4 مليارات دولار في الزراعة وتربية المواشي والتعدين، وكان لدول عربية أخرى كسلطنة عمان بعض المشروعات الزراعية كإنتاج الأعلاف الحيوانية وزراعة الشعير والذرة الصفراء.
وفي إثيوبيا بدأت الاستثمارات السعودية في النمو منذ 2008 تزامنًا مع مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي في الخارج، حيث تضاعف عدد رجال الأعمال السعوديين في إثيوبيا، وأصبحت المملكة الشريك العربي الأكبر لإثيوبيا، وبلغت الاستثمارات الزراعية نحو 4 مليار دولار، فيما تستورد السعودية 6% من إجمالي الصادرات الإثيوبية سنويًا.
ويتصدّر رجل الأعمال السعودي محمد العمودي، قائمة المستثمريين السعوديين في الأراضي الإثيوبية، حيث يمتلك مساحات شاسعة من الأراضي تقدر بـ14 ألف هكتار في إقليم جامبيلا غرب إثيوبيا، لزراعة الأرز، تمّ الحصول عليها في 2009 بموجب عقد انتفاع لمدة خمسين عام. كما تمتلك الإمارات عددًا من المشروعات تخطّت مليار دولار في قطاعات الانتاج الزراعي والغذائي في إثيوبيا.
من أين بدأ الاهتمام العربي بالقرن الأفريقي؟
تختلف التفسيرات حول أسباب الاهتمام العربي بالقرن الإفريقي في ظل التنافس الدولي المتنامي ومعركة بسط النفوذ لدى الدول الرئيسية في تلك المنطقة، خاصة إثيوبيا وجيبوتي والصومال، رغم كونها بؤرة ساخنة للصراعات لفترة طويلة نتيجة التباين الشديد في البناء الاجتماعي الداخلي سواءً في السودان وإثيوبيا أو الصومال، مما خلّف تاريخًا معقّدًا من التوتر والصراع بين القوميات التي تتطوّرت لحروب أهلية، إضافة إلى الكوارث الطبيعية التي خلّفت مشاكل الهجرة والنزوح، إذ ظلّ الموقع الجغرافي المتميّز لهذه المنطقة مفتاح الاهتمام والهيمنة للقوى الإقليمية والدولية لحماية مصالحها بخاصة تأمين الحصول على الموارد وطرق التجارة.
يدخل القرن الأفريقي ضمن الاستراتيجية الأوسع للأمن القومي العربي
تطوّر التنافس الدولي على دول القرن الأفريقي غيـّر من خريطة التبعية السياسية القديمة للدول الغربية الكبرى، إذ بدأت القوى الفاعلة في الشرق الأوسط لا سيما دول الخليج العربي في لعب أدوار سياسية لتأمين مصالحها، فضلًا عن إقامة شراكات وعلاقات قوية مع النخب الحاكمة في تلك الدول، فيما بدا وكأنه رؤية جيوسياسية تركّز على القرن الأفريقي باعتباره جزءًا من الأمن القومي العربي، والبناء على الروابط التاريخية والثقافية بين الجزيرة العربية وجوارها في الجانب الآخر من البحر الأحمر والمحيط الهندي عبر بوابة الاقتصاد والاستثمار وفقًا لمفهوم المنفعة المشتركة لتأمين المصالح الحيوية العربية.
بدأ القرن الأفريقي يدخل ضمن الاستراتيجية الأوسع للأمن القومي العربي، ليس فقط من أجل الاستثمار في الأمن الغذائي على المدى الطويل، بل والتصدي لنفوذ ومحاولات تمدّد كلّ من إيران وتركيا وإسرائيل، إذ بدأت سلسلة من الاستثمارات الاستراتيجية طويلة الأجل والمدعومة من الأنظمة السياسية في مجالات الأغذية، والزراعة، والطاقة، وهو ما لقي قبولًا لدى النخبة في دول القرن الإفريقي للاستفادة من أموال جيرانهم العرب الأثرياء.
مخاطر الاعتماد على القرن الأفريقي
كانت مسألة الأمن الغذائي مصدر قلق دائم لحكّام الدول العربية بشكل عام ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص، إذ تعاني الأخيرة من شحّ الموارد المائية، لكن استراتيجية تأمين الغذاء عبر تنفيذ العديد من البدائل ودفع الأموال من أجل الحصول على الغذاء من الخارج، ظلّت صمام أمان للنجاه من أزمات الغذاء العالمية، إلا أنّ اشتعال التوتر والصراعات وعدم الاستقرار السياسي يظلّ خطرًا وتحديًا كبيرًا أمام تأمين إمدادات الغذاء من دول تلك المنطقة - السودان وإثيوبيا بشكل خاص - مع الأخذ في الاعتبار عدم فعالية المبادرات السياسية العربية لوقف العنف وإرساء السلام في السودان حتى الآن.
بدأت شركات إماراتية في الاستحواذ على ثمانية شركات زراعية كبرى في صربيا
إلى جانب الأهمية الجيوسياسية وتأمين المصالح الأمنية والاقتصادية، توفّر أفريقيا فرصًا استثمارية رخيصة إلى حد كبير أمام المستثمرين العرب، بخاصة في قطاعات الزراعة مع وفرة الأراضي والمياه سواءً في إثيوبيا أو السودان، إضافةً إلى القرب الجغرافي لنقل شحنات الغذاء إلى السوق العربي، إلا أنّ هذه المكاسب ظلّت محفوفة بالمخاطر المتمثّله في عداوات السكان المحليين بسبب سياسات إعادة توطين المزارعين المحليين لصالح المشروعات الزراعية الضخمة وانخفاض عوائد الاستثمارات العربية على المجتمعات الأفريقية المحلية، وكان هجومًا داميًا لمجموعة من المسلحين المحليين على موظفي شركة "النجم" السعودية في منطقة جامبيلا في 2012 أبرز الأمثلة على المعارضة المحلية للمشروعات الزراعية العربية وعوائدها على المجتمعات المحلية.
ورغم أنّ الاستثمارات العربية في القطاع الزراعي كانت مرتبطة بتوجّهات ومصالح سياسية، إلا أنّ الاحتياج المستمرّ لإمدادات الغذاء وارتفاع فاتورة الغذاء مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية من جانب آخر، سيدفع بلا شك الشركات الخليجية الكبرى في مجال الاستثمار الزراعي إلى الأسواق الأسيوية والأمريكية لتجنّب المخاطر الأمنية في أفريقيا بشكل عام، إذ بدأت بالفعل شركات إماراتية في الاستحواذ على ثمانية شركات زراعية كبرى في صربيا، حيث أنه رغم أنّ هذا الاختيار قد يكون أعلى تكلفة وأقل فرصة في الحصول على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية كما هو الحال في أفريقياـ إلا أنه أقلّ تهديدًا من الناحية الأمنية، فضلًا عن قبول المجتمعات المحلية للمشروعات الزراعية المملوكة للأجانب.
يظلّ ارتفاع فاتورة استيراد الغذاء في الوطن العربي لما يقرب من 40 مليار دولار وزيادة مؤشرات الانكشاف الغذائي العربي، مع تحديات نقص الموارد من المياه والأراضي والمناخ الزراعي الملائم إلى استمرار الاعتماد على الأسواق الخارجية، يشكل تحديًا كبيرًا، لكنّ استمرار التهديدات الأمنية والصدمات المناخية غير المتوقعة في القرن الأفريقي يُعد كذلك من التحديات الكبرى أمام نجاح منظومة تأمين الغذاء العربي من تلك المنطقة، ما قد يدفع ربما باتجاه شراكات استراتيجية جديدة أكثر عمقًا داخل القارة الأفريقية دون الاقتصار على منطقة القرن الأفريقي وحدها باعتبارها الأقرب جغرافيًا.
(خاص "عروبة 22")