اقتصاد ومال

الاستدانة: ضرورة تنموية أم تهديد للسيادة؟

شهدت السنوات الأخيرة تصاعدًا لافتًا في مستويات الدَّيْن العام في عددٍ من الدول العربية، حتّى أضحى من أبرز المُحدّدات التي تؤثر بشكل مباشر في القرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. فلم يعد الاقتراض مجرّد وسيلةٍ لتمويل العجز أو دعم الميزانية، بل تحوّل إلى عنصرٍ بنيويّ ضمن نماذج تنمويّة تعتمد على الاستدانة كخيارٍ دائم، ممّا يثير تساؤلاتٍ عميقةً حول الأثر السيادي لهذه الظاهرة وانعكاساتها على العدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.

الاستدانة: ضرورة تنموية أم تهديد للسيادة؟

تُجسّد حالات مصر ولبنان والجزائر نماذج حيّةً لتفاقم عبء المديونيّة. ففي مصر، تجاوز الدين الخارجي 165 مليار دولار، بينما تخطّى الدين العام في لبنان نسبة 150% من الناتج الداخلي الخام، ما أدخل البلاد في واحدةٍ من أعقد أزماتها الاقتصادية والاجتماعية. أمّا الجزائر، فعلى الرَّغم من لجوئها إلى الاستدانة الداخلية، فإنّ هشاشة مداخيلها الخارجية المرتبطة بعائدات المحروقات تُهدّد استقرارها المالي.

حين تُربط الإصلاحات بإملاءات صندوق النقد والبنك الدولي تكون النتيجة في الغالب تفكّكًا اجتماعيًا وهشاشةً اقتصادية

لا تُمثّل هذه الأرقام مجرّد معطياتٍ تقنية، بل تُجسّد مدى ارتهان القرار السيادي لعددٍ من الدول العربية لاعتبارات مالية خارجية، لا سيما حين تُربط الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية بإملاءات "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي" وفق مقاربة نيو ليبيرالية، والتي غالبًا ما تُركّز على تحرير الأسواق، ورفع الدعم، وتقليص الاستثمار العمومي، وتقليص أدوار الدولة في تقديم الخدمات الأساسية. وتكون النتيجة، في الغالب، تفكّكًا اجتماعيًا، وهشاشةً اقتصاديةً، وتآكلًا تدريجيًا للثقة في المؤسّسات.

المديونية في المغرب: تمويلٌ للإصلاح أم فخٌ بنيويّ؟

في الحالة المغربية، تجاوز الدَّيْن العمومي عتبة 109 مليارات دولار سنة 2024، أي ما يفوق 83% من الناتج الداخلي الخام، من ضمنها قرابة 30% كدينٍ خارجي، يُخصّص منها سنويًا حوالى 4.7 مليارات دولار لخدمة الدَّيْن الخارجي، وهو مبلغٌ يتجاوز ميزانية وزارة الصحة، التي لم تتعدَّ 3.2 مليارات دولار، ما يعكس حجم الضغط الذي تمارسه خدمة الدَّيْن على بنية الميزانية العامة.

وعلى الرَّغم ممّا تُقدّمه الحكومة من مبرّراتٍ مرتبطةٍ بضرورة تمويل الأوراش الكبرى - من بينها مشاريع البنية التحتية، وبرامج التكيّف مع الجفاف، والانتقال الطاقي، أو التحضيرات لكأس العالم 2030 - فإنّ الإشكال الجوهري لا يتعلّق بمجرّد وجود المشاريع، بل بمدى مردوديّتها وجدواها الاقتصادية والاجتماعية. وتزداد الصورة تعقيدًا حين نأخذ بعين الاعتبار أنّ الدَّيْن الخارجي يُسدّد بالعملة الصعبة، بينما تُحصّل موارد الدولة الأساسية بالدرهم، ممّا يضع البلاد أمام مخاطر استنزاف احتياطاتها من النقد الأجنبي، بخاصّة في ظلّ عجزٍ تجاريّ هيكليّ تُحاول الدولة الحدّ من تأثيراته عبر مداخيل السياحة، وتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، والخدمات، بدلًا من الاعتماد على رفع حجم الصادرات أو تنويع النسيج الاقتصادي.

وكما أصبح واضحًا، فإنّ المديونيّة في المغرب لم تعُد حالةً ظرفية، بل باتت بنيةً قائمةً في قلب النموذج التمويلي، نتيجة تعاظُم تكاليف البرامج الإصلاحية، وكذلك نتيجة اختلالات مُزمنة على مستوى الميزانية والعجز التجاري، وفشل السياسات العمومية في توسيع القاعدة الجبائية ودمج الاقتصاد غير المُهيكل. كلّ ذلك يُضعف من قدرة الدولة على تعبئة موارد ذاتية، ويُكرّس منطق اللجوء المستمر إلى الاستدانة.

استدامة التمويل وهاجس السيادة

في ضوء هذه المعطيات، يبرز سؤالٌ محوريّ: هل الاستدانة في المغرب خيارٌ استراتيجيٌ واعٍ أم ضرورة قسرية تُفرض بحكم محدوديّة الموارد الذاتية؟.

النقاش يتمحور حول كيفية إدارة الدَّيْن بعقلانيّة وتسقيفه وتوجيهه نحو الاستثمار المنتِج والعادل

تشير المعطيات إلى أنّ منطق تدبير المالية العمومية أصبح رهينًا بمنظورٍ تقنيّ يسعى إلى توازن الحسابات، أكثر من سعيه إلى إحداث تحوّل هيكليّ في بنية الاقتصاد. فعلى الرَّغم من الخطاب الرسمي الداعي إلى تحفيز الاستثمارات المُنتِجة، لا يزال جزء مُعتبَر من القروض يُخصّص لتمويل مشاريع تفتقر أحيانًا إلى العائد أو إلى العدالة في توزيعها المجالي، ما يستدعي إعادة النظر في منهجيّة استثمار التمويلات الداخلية والخارجية، وتوجيهها نحو ما يُحقق الأثر المطلوب على المديَيْن المتوسط والبعيد.

ومن المُفيد التذكير هنا بأنّ توجيهات برنامج التقويم الهيكلي التي اعتُمدت منذ ثمانينيّات القرن الماضي قد مهّدت لتحوّلاتٍ عميقةٍ في دور الدولة، جرى من خلالها حصر وظيفتها في التخطيط الاستراتيجي، والتشريع، والمراقبة، والضبط، مع تقليص تدخّلها المباشر في المجالَيْن الاقتصادي والاجتماعي. وقد صاحب هذا التوجّه، تفكيك منظومة الدعم وتعويضها بمنظومة استهداف مباشر، وخوصصة المؤسّسات العمومية، وتحرير القطاعات الإنتاجية، وتعويم الدرهم جزئيًا، وتجميد كتلة الأجور. وعلى الرَّغم ممّا تحقّق من مكاسب في بعض المؤشرات، فإنّ هذه السياسات عمّقت الفوارق، وأضعفت الدور الاجتماعي والاستثماري للدولة.

الرهان يتمثّل في تحقيق توازن دقيق بين متطلّبات التنمية وضمان السيادة الاقتصادية وصون الاستقرار الاجتماعي

في هذا السياق، لا يمكن إنكار أنّ الاستدانة لعبت دورًا مُهمًّا في تمويل مشاريع تنموية ضخمة في مجالات البنية التحتية، والطاقات المتجدّدة، وتأهيل الموانئ، وبناء السدود، وبرامج إصلاح التعليم والصحة وغيرها، وهي مشاريع تُسهم في تحفيز النمو، وجذب الاستثمارات، وخلق مناصب شغل، وإن كان أثرها متفاوتًا بين منطقة وأخرى. لكن هذا لا يُلغي الحاجة إلى الحذر من المخاطر المتنامية التي قد تُهدّد قدرة الدولة على الاستمرار في أداء دورها الاجتماعي والاقتصادي، وعلى حماية استقلاليّة قرارها المالي.

إنّ النقاش العمومي اليوم لم يعُد يتمحور حول مدى وجوب التخلّص من الدَّيْن، بل حول كيفية إدارته بعقلانيّة، وتسقيفه، وتوجيهه نحو الاستثمار المنتِج والعادل. وهو نقاشٌ يستلزم من جهة القبول بالاستدانة عند الضرورة، ومن جهة أخرى تقوية قدرة الدولة على التمويل الذاتي عبر الإسراع في إصلاح المنظومة الجبائية، ليس من خلال زيادة العبء الضريبي على المواطنين أو المقاولات، وإنّما عبر توسيع القاعدة الضريبية، وإدماج الاقتصاد غير المُهَيكل، ومحاربة التهرّب الضريبي، وتوجيه الإنفاق نحو مشاريع ذات مردوديّة عالية وأثر اقتصادي واجتماعي ملموس تستجيب لمعايير العدالة المجالية والنجاعة الاقتصادية.

الدَّيْن أداة للنهوض إذا استُثمر في الاتجاه الصحيح لكنه قد يتحوّل إلى عبء ثقيل إذا أُهمل أثره البنيوي

وبذلك، فإنّ إشكالية الدَّيْن العمومي في المغرب لا يمكن فصلها عن سؤال النموذج التنمويّ في شموليته. فالرهان الحقيقي لم يعُد مجرّد التحكّم في الأرقام أو تقليص نسب العجز، بل يتمثّل في تحقيق توازنٍ دقيقٍ بين متطلّبات التنمية، ومحدوديّة الموارد الذاتية، وضمان السيادة الاقتصادية، وصون الاستقرار الاجتماعي.

فالدَّيْن، كما تؤكّد التجارب المقارنة، قد يكون أداةً للنهوض إذا أُحسن استخدامه واستُثمر في الاتجاه الصحيح، لكنه في المقابل قد يتحوّل إلى عبءٍ ثقيلٍ يقوّض المستقبل الجماعي إذا أُهمل أثره البنيوي أو أُسيء تدبيره.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن