مـن الصّـحيـح، تـمـامًـا، أن تُـعْـزَى حمـايـةُ الدّولـة لأمـنـهـا إلى مـركـزيّـة تلك الحـمايـة في منـظـومـة مشروعـيّـة الدّولـة ومـقـبولـيّـتها لـدى رعـايـاهـا أو شـعـبـها؛ غيـر أنّـه مـن الصّـحيـح، أيـضًا، أنّ بـعـضَـها مـا اكـتـفـى بحمايـة الأمـن مـن الأخطـار الخارجـيّـة، أو اكـتـفـى بمـسْـلك الدّفـاع المشـروع عـن النّـفـس في وجـه العـدوان، بـل زاد على ذلك بـسـعـيٍ مـنـه إلى خـوض حـروب الإخضـاع والسّـيـطـرة مـن طـريـق الاحتـلال والتّـوسُّـع فـيه. كـان هـذا شـأنَ الإمبـراطوريّـات الكـبرى في زمـنٍ مضـى، لكـنّـه استمـرّ في الـزّمـن الحاضـر مع حركـة الاستـعـمار والإمبـريـاليّـة وحـروبـهـمـا التّـوسّـعـيّـة التي لا تـنـتـهي إلاّ لكـي تـبـدأ مـن جـديـد!
نحـن، فـي هـذه الحـالة الثّـانـيّـة مـن انـدفـاع القـوّة العسـكـريّـة مـن حـدود الدّفـاع إلى حيـث غـزو الخـارج وإخضاعِـه، أمام نـزعـةٍ عـسكـريّـةٍ تغـشى السّـياسـةَ وتُـهـيـمـن علـيـها وتُـوجِّـهـهـا بـعـد أن تُـعـيـد تـرتيـب أولـويّـاتـها. مـن البـيّـن أنّ مثـل هـذه النّـزعة - وهـي مـتـطـرّفـة - لا يقـوم إلاّ في دولٍ قـويّـة، مـثـل الإمـبراطـوريّـات، تـملك أن تُجـنّـد مـواردَ ومـقـدَّرات كبـيـرة في المجـهـود الحـربيّ، وأن تُـنـشـئ جيوشًـا جـرّارةً قـادرةً على الإنفـاق المادّيّ عـليـها، مـثـلما لـديـها طمـوحـات ومـطامـعَ تـوسُّـعـيّـة في جـوارها أو في مـدًى مـن الجـغرافـيـا أبـعـد؛ ولـقـد نـشأتِ الإمبـراطوريّـات في التّـاريخ مـن هـذه الحـركـة من الزّحـف التّـوسّـعـيّ لـدولـةٍ في أراضي سـواهـا ومـن الضّـمّ والإلحـاق لها إلى كِيانـها. مع ذلك، يكـاد حـلم التّـوسُّـع أن يُـخـامِـر كـلَّ دولـةٍ حـتّى وإنْ تـواضَـع حـجـمُـها السّـكّـانـيّ والجـغـرافـيّ وضـؤُلـت قـواهـا ومـواردُهـا، ولـعـلّـه يكـون حـلمًا مـلازِمًـا للسّياسـة مـلازمـتَـه للنّـوازع البـشريّـة والطّـبائـع، مـن غيـر أن نُـذهَـل عـن حـقيـقـة التّـمظـهُـر المادّيّ لتـلـك النّوازع في سياسات الدّول نـفـسـها.
يمكن للنخب العسكرية أن تُدير السلطة من وراء حجاب وأن ترتضي النخب المدنية أن تحكُم باسمها
للنّـزعـة العـسكـريّـة (العـسـكرتـاريـا) تـبـدّيّـاتٌ في سـياسـات الدّول لا حـصـر لـهـا، بـل هـي لا تُـعْـرَف ولا تـكـاد أن تُـقـاسَ حـجـمًـا إلاّ مـن طـريق تـبـدّيّـاتها تلك، ولـعـلّـنـا نشـيـر، فـي إسـراع، إلى ثـلاثـة مـن تـلك التّـبـدّيّـات هـي الأَظـهـر فيها جميـعًـا:
أوّلـهـا؛ التّـكـثـيـرُ مـن الحـروب والسّـعـيُ المتـمـادي إليها بـدعـاوى عـديـدة (الدّفـاع الاسـتـبـاقـيّ عـن النّـفـس، الخشـيـة على الأمـن، الخـوف مـن زيادة تـسـلُّـح العـدوّ...)، بـل واخـتـلاق "مـعـلومـاتٍ" زائـفـةٍ عـن تحـضـيـرات عسـكـريّـةٍ مُـعـاديـةٍ... قـصـد تـبريـر الإقـدام على شـنّ الحـروب.
ثـانـيـها؛ التّـوسُّـع في حـيـازة الأسلـحـة: اقـتـنـاءً أو إنـتـاجًـا أو هـمـا مـعًـا، وتخـصيصُ المبـالـغ العاليـة لذلك، حتّـى لو كـانـتِ نسـبـةُ الإنـفاق على القـطاع الدّفـاعـيّ أعلى مـن غـيرها في مـوازنـة الدّولـة، فضـلًا عـن التّجـيـيش الاجتماعيّ (بغـرض الخـدمـة العسكـريّـة الإجبـاريّـة) وتـهـيـئـة جـيـش الاحتـياط.
ثـالـثها؛ ازديـادُ نـفـوذ النّـخـب العسـكريّـة في السّـلطـة: إمّـا في صورة نـفوذٍ مباشِـرٍ تكـون فيـه هي النّـخـبة الحاكـمـة، أو مـن طـريق نـفـوذٍ غـيـرِ مباشـِرٍ تـمارِسـه على نخـبـةٍ مـدنـيّـةٍ تـكـون، في الغـالـب، واجـهـةً سياسـيّةً لحـكـم العـسكـر.
بات كلّ نظام في العالم تحت رحمة أجهزة الأمن والاستخبارات التي ترسُم له أولويات السياسة وتفرض عليه الخيارات
إذا كـان مـعـدّلُ هـذه العسكـرتاريـا قـد زاد ارتـفاعـًا في التّـاريـخ الحـديث؛ منـذ الانـتـقـال مـن السّـلاح التّـقـليديّ إلى السّـلاح النّـاريّ واتّـساع نطـاق الحـروب وتكـاثُـرِهـا، وبالتّالي، تـعـاظُـمِ نـفـوذ العسكـر في السّياسـة والدّولة، فـإنّ المستـوى الذي رست عليه العسكـرتاريا في العـالم - منـذ سبـعيـنـيّـات القـرن التّـاسع عشـر - غيـر مسـبوقٍ في الكـمّ والنّـوع. إنّ لـديـنـا منـها، اليـوم، مـا لا حـصْـر له من النّـماذج بـعـد انـصـرام تجـربة الفـاشيّـات العسكـريّـة في أميركا اللاّتيـنيّـة أو فـي بـعض أوروبـا (إسبـانيـا، البـرتغال، اليـونـان)، وبـعـد اضمـحلال نمـوذج السّـلطـة النّـاشئـة مـن انـقـلابات عسكـريّـة. مـا عـاد ضـروريًّـا أن يـوجـد جـنـرالات في السّـلـطـة حتّى تـكـون هـناك عسـكرتـاريـا سيـاسيّـة في الدّولـة؛ بـات يـمـكن للنّـخـب العسكـريّـة (وأجهـزة استـخـباراتها) أن تُـديـر السّـلطـة من وراء حـجـاب وأن تـرتضـيَ النّـخـبُ المـدنـيّـة أن تحـكُـم بـاسمـهـا (= بـاسـم الأمـن القـوميّ) وأن تحـتـرمَ القـواعـدَ التي تـرسُـمـهـا لـها المؤسّـسـة العـسكـريّـة.
ليس تـفـصيلًا أن نَـصْـحُـوَ اليـوم على مشـهـدٍ جـديـدٍ غـيـرِ مألوفٍ يـتـمـثَّـل في أنّ كـلَّ نـظـامٍ سياسيّ في العـالم بـات تحـت رحمـة أجهـزة الأمـن والاستـخـبارات التي تـرسُـم لـه أولـويّـات السّـياسـة وتـفـرض عـليـه الخـيارات. مـا مِـن نـظامٍ يَـعْـرَى مـن هـذه السّـطـوة حـتّـى الأنظـمـة الخارجـة مـن صـنـاديـق الاقـتـراع؛ إذْ سـريـعًـا مـا تـنـسى هـذه بـرامـجَـهـا الانـتخابيّـة لـتـنـصرف إلى تـطـبيـق البـرنـامـج الوحيـد المُـمْـلَى علـيـهـا مـن الأجـهـزة.
لـعـلّ هـذا واحـدًا مـن الأسبـاب التي تُـفـسّـر تـزايُـد الحـديـث، في أوسـاط الـدّارسيـن والسّيـاسيّـيـن، عـمّـا يُـسـمّـى بأدوار "الدّولـة العـمـيـقة" في إدارة الشّـؤون العـامّـة وسياسـات النّـخـب الحاكـمـة، وعلى قـدرتـها على هـنـدسـة مسـاراتٍ للسّـياسـة وإدارة الحـكـم لـم تكـن في جمـلة مـا وضـعـتْـه النّـخـبُ الحاكـمـة ضـمـن جـدول أعـمـالـها في السّـلطـة.
(خاص "عروبة 22")

