بقدر ما فتحت الحركات الاحتجاجية في العالم العربي، بعد يناير/كانون الثاني 2011، المجال فسيحًا لتجاوز التصوّرات النمطية حول العرب، وفي مقدّمتها مقولة "الاستثناء الديموقراطي"، فإنّ فشل تجارب الانتقال الديموقراطي في أبرز الدول المرشّحة لتكون نماذج للتغيير الديموقراطي المأمول، في تونس ومصر أساسًا، أعاد من جديد الادّعاءات القائلة بتعارض الإسلام مع الديموقراطية، وعدم قابليّة المجتمعات العربية للتعدّدية والدمقرطة. فأقصى ما أفضت إليه تلك التجارب بروز ديموقراطية شكلانيّة قصارى همّها إنجاز انتخابات دورية، وما يتّصل بها من مراسم احتفالية. وقد كانت الصورة الكاريكاتورية لتمثيل أعطاب الديموقراطية العربية في شكل ناقةٍ على هودجها صندوق انتخابات في إحدى المنصّات الإعلامية، عيّنة ساخرة عمّا آل إليه التطبيق المشوّه أو المنقوص للديموقراطية في المنطقة.
حدث كلّ ذلك على الرَّغم من تتالي التحذيرات منذ أواخر ثمانينيّات القرن الماضي من خطورة ارتداد العالم العربي إلى العصور المظلمة، حيث نبّه جورج طرابيشي - على سبيل الذكر - إلى أنّ الديموقراطية لا يمكن تحقيقها في صندوق الاقتراع قبل أن تتحقّق في "جمجمة الرأس"، سواء بالنسبة إلى النّخب أو إلى الجماهير.
الإشكال الأساسي في الحالة العربية يكمن في ضعف ثقافة الديموقراطية
لا يرجع ذلك الفشل إلى اختلالٍ في مفهوم الديموقراطية أو إلى ارتباطها بالمجال التداولي الغربي، مثلما يُشاع غالبًا، بحكم أنّ الديموقراطية قبل أن تكون مفهومًا، مثّلت آليةً من آليات تنظيم شؤون الحُكم والتداول السلمي على السلطة، فضلًا عن كونها تُعدّ ضرورةً أخلاقية، على حدّ تعبير جورج بيردو (Georges Burdeau) للتحرّر وتكريس العدالة. ذلك أنّ الإشكال الأساسي في الحالة العربية يكمن في غياب الظروف الملائمة لترسيخ الديموقراطية. ونعني بذلك ضعف ثقافة الديموقراطية، وما تعنيه من قبول التعدّد والاختلاف وتغليب منطق المواطَنة على بقية الولاءات الباليّة لدى مختلف الفاعلين الاجتماعيين. إذ ما زال التردّد في الخيار الديموقراطي واضحًا للعيان إلى اليوم، في خصوص احترام أخلاقيّات العملية الديموقراطية ومقاصدها.
يستحيل انفتاح آفاق أرحب للمنطقة ضمن مشروع تكامل اقتصاديّ عربيّ من دون تحقيق شرط الديموقراطية
يرجع ذلك التردّد أساسًا إلى عدم جدّية الغرب في دعم البناء الديموقراطي في العالم العربي، في ظلّ تركيزه المفرط على اختراق مختلف التشكيلات الحزبية والهيئات السياسية والثقافية، ليعتمدها في السيطرة والهيمنة ضمن استراتيجيات القوّة الناعمة في تأبيد تبعيّة المنطقة وضمان مصالحه فيها.
يُشكّل تكريس الديموقراطية الحقيقيّة أولويةً قصوى في الحالة العربية، إذ إنّ ضمان التداول السلمي على السلطة من شأنه ضمان استقرار المجتمعات وتركيز جهودها في معالجة قضاياها الحيويّة، بدل التكالب المحموم على سدّة الحكم، حيث يستحيل انتظار انفتاح آفاق أرحب للمنطقة ضمن مشروع تكاملٍ اقتصاديّ عربيّ، من دون تحقيق شرط الديموقراطية لأنّها مهاد أساسيّ لتحوّلات نوعيّة أكبر. ولعلّ هذا ما يُفسّر تتالي فشل مختلف التجارب الوجوديّة التي شهدتها المنطقة منذ تجربة الجمهورية العربية المتّحدة سنة 1958 خلال الحقبة الناصرية.
جوهر الديموقراطية القائم على قبول الاختلاف والتعدّد يساعد على تكريس النزاهة والشفافية والحوكمة وتكافؤ الفرص
يظلّ الأمل مشروعًا في إمكانيّة تشكّل ديموقراطية عربية مُكتملة الشروط في ظلّ ما أثبتته فكرة الديموقراطية من قابليّة للتكيّف والتطوّر في مختلف المراحل التاريخية. فقد اقتصرت الديموقراطية في المجتمع الأثيني على اليونانيين، مع إقصاءٍ للأجانب والعبيد والنساء والأطفال. وتباينت آليات تحقيقها في الغرب بين ديموقراطية مباشرة أو شبه مباشرة في سويسرا، وديموقراطية تمثيليّة في الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة. كذلك، تعدّدت طبيعة الأنظمة المُنبثقة عنها بين أنظمة جمهوريّة ومَلَكيّة دستوريّة، بل قد تتحقّق الديموقراطية من دون دستور مُدوّن في وثيقةٍ واحدةٍ مثلما هو الحال في إنجلترا.
لا جدال في أنّ تعدّد تطبيقات الديموقراطية يؤشّر إلى إمكانيّة ميلاد ديموقراطية عربية منبثقة من رحم الواقع العربي. ذلك أنّ روح الديموقراطية أو جوهرها القائم على فكرة قبول الاختلاف والتعدّد، يساعد على تكريسٍ فعليّ لمبادئ النزاهة والشفافية والحوكمة وتكافؤ الفرص، في إطار التنافس النزيه على تدبير الشأن العام وإدارته. وهي مرتكزات مفقودة في الواقع العربي، على الرَّغم من وجود مرادفات وقرائن لها في مختلف الدساتير العربية. وهو ما يؤكّد الحاجة إلى بناء ديموقراطيةٍ حقيقيةٍ تكون مدخلًا لتحقيق تلك الرهانات المُشار إليها آنفًا.
(خاص "عروبة 22")