اقتصاد ومال

"حلف الضرار"... فتّش عن الاقتصاد والتاريخ! (1/2)لماذا امتنعت الصين وروسيا عن دعم إيران في الحرب ضد إسرائيل؟

بينما كان البعض في مقاهي العالم العربي يتوقّع أن تتحوّل الحرب الإسرائيلية - الإيرانية إلى حربٍ عالميةٍ ثالثة لأنّ الصين وروسيا ستتدخّلان لدعم طهران وستحاربان الولايات المتحدة من أجلها، فيما تحدّث بعض المحلّلين العرب عن الأهمية الجيوستراتيجية الفائقة لإيران بالنسبة لموسكو وبكين، فإنّ الواقع أنّ الدولتَيْن كان ردّ فعلهما حذرًا للغاية خلال الأزمة، وحتى أكثر حذرًا من بعض الدول العربية والإسلامية. وبدت تصريحات المسؤولين الروس أشبه بتعليقات المحلّلين العرب، وكأنّهم مجرّد مشاهدين وليسوا صنّاع حدث، وكان أقصى ما فعلوه هو عرض الوساطة بين إيران وإسرائيل، أما ردّ فعل الصين فكان أكثر حذرًا على الرَّغم من حمله بعض الإدانات، بخاصة لواشنطن.

على أرض الواقع، لم نشهد أي تدفّق لأسلحة أو معدّات صينية أو روسية لإيران مثلما فعل الغرب مع إسرائيل وأوكرانيا، أو مثلما فعلت طهران نفسها مع موسكو حين أرسلت مُسيّرات وصواريخ وذخائر إلى روسيا لتحارب بها أوكرانيا، بل وصل الأمر إلى تصنيع الروس لنسخهم الخاصّة من المُسيّرات الإيرانية والتي أسموها "جيران 2". ولم يظهر موقف قوي من موسكو إلّا حينما تعلّق الأمر بمفاعل "بوشهر" النووي حيث حذّرت إسرائيل من التعرّض له خوفًا على خبرائها الذين يعملون فيه.

أحد أسباب نجاح الطيران الإسرائيلي في السيطرة على الأجواء الإيرانية بسرعة وسهولة يعود إلى دور روسيا والصين

والحقيقة أنّ أيًّا من الاتفاقات التي تربط إيران بالصين وروسيا لا تتضمّن على الإطلاق كلمة تحالف أو ترتيبات دفاعية، بما في ذلك "معاهدة الشراكة الاستراتيجيّة الجديدة" التي وُقّعت بين روسيا وإيران، في مطلع 2025، وذلك على النّقيض من  المعاهدة الموقّعة عام 2024 بين روسيا وكوريا الشمالية، والتي تنصّ على تبادل المساعدة العسكرية بشكلٍ فوريّ في حال تعرّض أي من الطرفَيْن لهجومٍ مسلح، بينما يتطلّب الاتفاق مع إيران من الموقّعين عدم تقديم المساعدة العسكرية أو غيرها من المساعدات للطرف المهاجم فقط.

والواقع أنّ أحد أسباب نجاح الطيران الإسرائيلي في السيطرة على الأجواء الإيرانية بسرعةٍ وسهولةٍ لم تحقّقها الولايات المتحدة والتحالف الدولي أمام العراق في حرب تحرير الكويت 1991، يعود بشكلٍ كبيرٍ إلى دور روسيا والصين.

فإيران ليست دولةً فقيرة، ولديها الإمكانيات المادية لشراء معداتٍ عسكرية، ولو اشترت 10 طائرات سنويًا من الدولتَيْن منذ عام 1991 بعد حرب الخليج (بقيمة تدور حول نصف مليار دولار سنويًا في المتوسط)، لكان لديها الآن نحو 340 طائرة كانت كفيلةً بتصعيب العمل على المقاتلات الإسرائيلية، خصوصًا في ظلّ بُعد المسافة بين البلدين.

تَمنُّع الصين وروسيا عن تقديم أسلحة متطوّرة إلى طهران كان حافزًا أساسيًا وراء سعيها لتطوير برنامجها الصاروخي

ولكن خلال هذه العقود، أفادت تقارير عدّة بأنّ إيران طلبت شراء مقاتلات روسية وصينية، غير أنّ البلدَيْن رفضا، حتى أنّ آخر مقاتلات سلّمتها موسكو إلى طهران كانت في أوائل التسعينيّات (من طرازَيْ ميغ 29 وسوخوي 24) وجرى الاتفاق عليها في نهاية العهد السوفياتي، وذلك بعد أن استغلّ البلدان انشغال الولايات المتحدة بحرب الخليج.

كما أخّرت روسيا تسليم أنظمة "إس 300" للدفاع الجوي إلى إيران والتي أُبرمت عام 2007، بسبب برنامجها النووي، ولم تُسلّمها إلّا بعد إبرام الاتفاق النووي عام 2015، حيث أصبحت النسخة المُقدّمة لإيران قديمة، ممّا ساهم بشكلٍ كبيرٍ في استباحة الطيران الإسرائيلي لسماء إيران. كما دفع ذلك طهران لمحاولة تطوير أنظمتها الجوية الدفاعية الخاصّة بها، بما فيها أنظمة قالت إنّها تُماثل "إس 300".

وكان تَمنُّعُ الصين وروسيا عن تقديم أسلحةٍ متطوّرةٍ إلى طهران منذ نهاية الحرب الباردة حافزًا أساسيًا وراء سعي إيران لتطوير برنامجها الصاروخي لتوفير قوة ردع، في ظلّ تقادم سلاحها الجوي وضعفه ليس حتّى مقارنةً بإسرائيل، بل مقارنةً بالدول العربية المجاورة وتركيا وباكستان.

بالطبع لا يمنع ذلك أنّ الصين وروسيا قدّمتا بعض المعونات الدفاعية لإيران، ولكن أغلبها كان في شكل خبرات وتقنيات أو مواد مستخدمة في صناعة الأسلحة (والتي يصعب تتبّعها من قبل الغرب مقارنةً بالأسلحة الكاملة)، وعلى سبيل المثال تُزوّد بكين طهران بالمواد اللازمة لتصنيع وقود الصواريخ الصلب.

ومن الناحية الاقتصادية، التزمت الصين وروسيا، بشكلٍ متفاوتٍ وإن لم يكن صارمًا، بالعقوبات الأميركية على إيران، ولا سيما العقوبات القاسية التي فرضها دونالد ترامب في ولايته الأولى، على الرَّغم من تنديدهما بها باعتبارها غير قانونية لأنّها ليست صادرةً من مجلس الأمن.

إنّ أسباب هذه المواقف الصينية - الروسية مُتعدّدة، وبعضها يعود لعوامل تاريخية وأخرى اقتصادية، ولكنّ تحليل هذه العوامل يتطلّب إزالة وهمٍ سائدٍ في التفكير بشأن سياسة الصين وروسيا، وهما أنّهما يُنافسان الولايات المتحدة بمنطق الاتحاد السوفياتي نفسه.

كان الاتحاد السوفياتي قوةً إيديولوجية، واقتصاده لم يكن مرتبطًا بالولايات المتحدة، وعلى الرَّغم من طابعه العملي والحذر، فقد اعتبر الاتحاد السوفياتي نفسه قائدًا للتحرّر العالمي من الإمبريالية، وأنّ المجال لتوسيع نفوذه وترويج نموذجه يتركّز بالأساس في دول الجنوب، ولذا كان على استعدادٍ لدفع أثمانٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ (ولكن ليست عسكريةً غالبًا) لمنافسة الولايات المتحدة، واعتبر أي انتقاص أو مناكفة للنفوذ الأميركي مكسبًا له.

حتى أنّ هناك واقعة شهيرة ذكرها سفير مصر الأسبق في موسكو الدكتور مراد غالب في مذكّراته، إذ قال إنّه عندما أوقفت واشنطن تصدير القمح لمصر في الستينيّات، طلب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف الحصول على قمح، ولأنّ الاتحاد السوفياتي كان يستورد أصلًا القمح من الخارج، فقد أمر خروتشوف بتحويل السفن المتوجّهة بالقمح لبلاده إلى مصر، كما أعلن الاتحاد السوفياتي التأهّب النووي خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

موسكو لا تريد عداء ترمب وتأمل أن يرفع عنها العقوبات والصين لا تريد تصعيد الحرب التجارية أو استفزاز واشنطن

حاليًا، الصين وروسيا ليستا في حالة صراعٍ وجوديّ أو إيديولوجي مع أميركا، بل هما قوّتان تبحثان عن مصالحهما الوطنية ولديهما علاقات اقتصادية قوية مع الغرب، حتى لو تغيّر هذا الأمر بالنسبة لروسيا بعد العقوبات الغربيّة عليها بسبب حرب أوكرانيا، لكن بعد عودة ترامب إلى السلطة، لا تريد موسكو استجلاب عدائه، وتأمل أن يرفع عنها العقوبات.

أمّا الصين فعلى الرَّغم من الحرب التجارية الأميركية عليها، فإنّها تردّ بحذر ولا تريد تصعيدها أو استفزاز واشنطن، لأنّها ما زالت مستفيدةً من ميزان التبادلات التجارية الحالية وتسعى إلى إطالته لأطول فترة ممكنة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن