لعلّ الفارق بين العبارتَيْن، والمُشابه للفوارق بين نعيم قاسم وحسن نصر الله، يعكس عمق التحوّلات الخطيرة التي ضربت محور المقاومة وعموده الفقري "حزب الله"، والذي أثخنت فيه إسرائيل قصفًا وتدميرًا واغتيالاتٍ لم تتوقف منذ إعلان وقف إطلاق النار، الذي التزم به الحزب ولم يلتزم به العدو الإسرائيلي ولا الراعي الأميركي الفاقد للضمانات.
تفجير المرفأ كشف عن عنابر للمقاومة شكّلت رافدًا للانهيار المالي و"حزب الله" اتخذ حيال ثورة تشرين دور حامي اللصوص
لم تكن الوحدة الوطنية اللبنانية في أبهى حللها قبل "طوفان الأقصى" وانخراط "حزب الله" الإسنادي لجبهة غزّة، وكانت أصوات لبنانية مُؤسِّسة تتحدّث باستمرار عن الدويلة التي تحكم الدولة، وعن ازدواجيّة السلاح. ولطالما غمزت من تجاوزات "حزب الله" الأمنية والقضائية والسياسية والاقتصادية، حتّى أتى انفجار مرفأ بيروت والمجزرة البشرية والتدميرية التي خلّفها، فشكّل منصّةً مُتجاوزةً للجرأة في انتقاد "حزب الله" ودوره في شحنات "النيترانيوم" (نيترات - أمونيوم) التي أشعلت انفجار المرفأ، وأشعلت معه السيناريوات المختلفة حول دور إسرائيل من عدمه في الذي سُمّي "بيروشيما" دلالةً على حجمه الكارثي، وربطًا بأدخنته البيضاء والصفراء النيتراتيّة التي فعلت فعلها في تصويب أصابع الاتهام السياسية والإعلامية على "حزب الله" الذي أُطلق عليه يومها "منظومة الفساد والنيترانيوم".
إذن، تفجير مرفأ بيروت وبعيدًا عن التحقيقات المُستأنفة من القاضي العدلي طارق بيطار، ساهم في التنكيل الشديد بصورة وهَيْبَة ومكانة "حزب الله" في المجتمع اللبناني، سيّما أنّ التفجير كشف عن خطوط استيراد وتصدير وعنابر خاصّة بالمقاومة مع ما يعنيه ذلك من مسّ بالاقتصاد اللبناني وحرمانه من مداخيل جمركيّة وضرائبيّة عزّزت تقويض الخزينة اللبنانية، وشكّلت رافدًا للانهيار المالي جرّاء استفحال الفساد في مؤسّسات الدولة وساستها ووزرائها الذين جرى التشهير بهم خلال ما عُرِفَ بثورة "17 تشرين"، التي اتخذ "حزب الله" حيالها، بانحيازه إلى شريكه في "تحالف مار مخايل" (التيار الوطني الحر)، دور حامي اللصوص وأثرياء الفساد الجدد.
هذا داخليًّا، أما خارجيًّا فقد شكّل انخراط "حزب الله" في الحرب السورية لصالح النظام السوري، عاملًا جوهريًّا في تآكل هيبته ومكانته، سيّما أنّ هذا الانخراط كان خطوةً أحاديةً قرّرها "حزب الله" بعيدًا عن الدولة اللبنانية، وهو الانخراط الذي سبقه تدخّل في اليمن، وكذلك في العراق، وفي كلّ مكان تنشب فيه إيران أنيابها.
نصر الله كان يعتقد أنّ قتاله وقاسم سليماني تحت حماية "الأباتشي الأميركيّة" سيمنحهما بوليصة تأمين طويلة المدى
أغلب الظنّ أنّه لم يَدُر في خلد نصر الله، أنّ ما زرعه في سوريا والعراق ولبنان واليمن سيتحوّل هبابًا ويرتدّ عليه وعلى فكرة المقاومة، خصوصًا أنّ غالبيّة هذا الزرع كان يتمّ تحت عباءة "التخادم الأميركي - الإيراني" الذي انطلق مع الغزو الأميركي للعراق. وهو التخادم الذي بدأت مفاعيله الأولى في ملاحقة فصائل المقاومة العراقية الأصليّة التي انطلقت منذ بداية الاحتلال، وقبل ظهور "القاعدة" و"داعش" وامتلاكهما زمام القوة والقدرة على أنقاض المقاومة العراقية الأصليّة، ما أدّى إلى تقذير صورة المقاومة الأصليّة التي استُبدلت بفصائل أخرى موالية لإيران، ألبسها نصر الله عباءة المقاومة ثم خصّبها ضمن فصائل محور المقاومة. والمقصود بالمقاومة هنا هو "المقاومة الشيعيّة" حصرًا، وبهذا خسر نصر الله وحزبه من حيث دَرَيا، أم لم يَدْرِيا، حصانةً وطنيةً وقوميةً وإسلاميةً عابرةً للمذاهب، وتحوّلا إلى شبه حالةٍ انعزاليةٍ داخل النسيج العربي الواسع.
أغلب الظنّ أيضًا، أنّ نصر الله كان يعتقد أنّ قتاله وقاسم سليماني ضدّ "داعش" و"القاعدة" في العراق وسوريا تحت حماية "الأباتشي الأميركيّة" سيمنحهما بوليصة تأمين سياسية طويلة المدى ربما تشطبهما من لوائح الارهاب جرّاء تقاطعهما مع الأميركيين. لكن فات نصر الله على الرَّغم من حنكته ودهاء قاسم سليماني أنّ "الارهاب سيف أميركا تنتقم به ثم تنتقم منه".
شكّل إسقاط بشّار الأسد ونظامه نقطة الإطباق الاستراتيجية على إيران و"حزب الله"
هي التحوّلات التي توّجت بالحرب الإسرائيلية - الأميركية ضدّ إيران ومفاعلاتها النووية، والتي تخلّلها تنفيذ إسرائيل والولايات المتحدة خطةً مشابهةً لما جرى لـ"حزب الله" وتوّجت باغتيال نصر الله، ولم تتوّج باغتيال المرشد الإيراني علي خامنئي. لكنّها قبل ذلك، كانت التحوّلات التي فرضت وفق همجيّة بنيامين نتنياهو "شرق أوسط جديدًا"، شكّل إسقاط بشّار الأسد ونظامه نقطة الإطباق الاستراتيجية على إيران و"حزب الله" الذي بات من دون مدًى حيويّ وعمقٍ استراتيجيّ كانت تُشكّله له "سوريا الأسد".
وتوازيًا مع التهويلات والضغوط المُتعاظمة على "حزب الله" ولبنان، لا بدّ من التوقّف أمام خطاب الرئيس اللبناني جوزاف عون بمناسبة عيد الجيش، وتأكيده على معادلة "حصرية السلاح بيد الدولة"، وهي المعادلة التي استبقها "حزب الله" بمعادلته الجديدة "لن نُسلّم السلاح لإسرائيل". معادلتان سرعان ما انبرى طيفٌ سياسيّ وإعلاميّ لبنانيّ إلى وضعهما بشكلٍ تصادميّ في مواجهة بعضهما، وإلى تحديد الأيام الصفرية لاستئناف نتنياهو حربه على "حزب الله"، اتساقًا مع اعتراف المبعوث الأميركي توماس باراك بعدم وجود ضمانات تمنع استمرار العدوان وتؤمّن انسحاب العدو الإسرائيلي وتُطلق ورشة إعمار الجنوب وتوقف الاغتيالات.
معادلة جديدة تضع إدارة السلاح وسريّته واستخدامه الدفاعي تحت إمرة الدولة الحصرية ربّما تمنع حربًا جديدة
وفيما يُردّد قادة "حزب الله" وشيخه نعيم قاسم، التزامهم موقف الدولة "المتحمّلة لمسؤولياتها"، يُفيد الاعتقاد العميق بأنّ "حزب الله" بمعادلته الجديدة يعيش لحظة الحقيقة، وربّما وجد مصلحته العليا في الانضواء تحت كَنَفِ الدولة، لكنّ هذا الانضواء يحتاج إلى مراحل تمهيدية على مستوى الإعداد والخطاب، وهو ما ينبغي التقاطه من لسان نعيم قاسم وإخضاعه السريع للتخصيب الاستراتيجي الوطني الهادف لاختراع معادلةٍ جديدةٍ من رَحِمِ مُعادلتَي الدولة والحزب معًا، من شأنها أن تضع إدارة السلاح، وسريّته، واستخدامه الدفاعي، تحت قيادة الدولة وإمرتها الحصرية، والتي ربّما تمنع حربًا جديدةً يُهدّد قادة إسرائيل العدوّة بشنّها.
حمى الله لبنان...
(خاص "عروبة 22")