أثارت النقاشات التي حصلت في جلسات «الحوار الوطني» الذي يجمع ممثلين عن مختلف الأحزاب والقوى الوطنية في مصر؛ جدلاً واسعاً في الداخل والخارج، لأنه تناول بعض العناوين التي تحمل مدلولات جديدة، خصوصاً منها موضوع «الهوية». ذلك أن بعض المشاركين من المحافظين ومن تيارات الشباب يطالبون بإعادة النظر في التوصيف الحصري لعربية الهوية للمصريين كافة، ويقولون إن الهوية لها خصائص وجذور مصرية خالصة، تبلورت قبل دخول الإسلام إلى بلاد النيل في عام 641 ميلادي. ويترافق مع هذا النقاش الذي ستقدم خلاصته إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ ظهور ملابس «تي شيرت» مطبوعة عليها عبارة «مصرية مش عربية»، يرتديها بعض الشبان في مناطق مختلفة من البلاد.
وبعيداً عن الانفعال الذي يردّ به أغلبية المشاركين في ندوات الحوار، أو المثقفين والجمهور العريض من المصريين؛ يمكن تسجيل بعض النقاط الموضوعية التي تعطي مبررات كافية لقناعة أغلبية المصريين حول التلازُم بين الهوية المصرية والعروبة. وهذه النقاط الجوهرية تدحض المبررات التي يعتمدها بعضهم كمصدر يمكن الاعتداد به للفصل بين التوصيف العربي للهوية، والتوصيف المصري لها، بما في ذلك التفسير المُتسرِّع لهؤلاء، لكلام سيد الأدب العربي طه حسين، ورد في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» وتمّ اعتباره، عن غير وجه حق، بأنه تأييد من حسين للتعددية في الهوية والانتماء، كما هو الحال في التعددية الثقافية والدينية عند المصريين.
يذكر أبن خلدون أن «العماليق» أُمم تفرقت وانتشرت في بلاد واسعة، وكان منهم الجبابرة الكنعانيون، وأهل بلاد الشام، وكان منهم أيضاً أهل الحجاز وأهل مصر والفراعنة. وقد ظهر بوضوح في بلدة أريحا الكنعانية في فلسطين كتابات باللغة العربية منقوشة على صخور في القرن السابع قبل الميلاد. وهناك تشابه كبير بين طريقة الكتابة العربية على هذه الصخور، وبين قواعد اللغة الهيروغليفية التي اعتمدها الفراعنة في مصر، خصوصاً في طريقة الكتابة من اليمين إلى اليسار، وفي تحريك الحروف وعددها 28 حرفاً، وهو ما يتطابق مع قواعد العربية. علماً بأن التاريخ المكتوب في مصر بدأ في عام 31 قبل الميلاد، وقبل ذلك كانت الكتابة تصويرية، وقد ساهم المصريون في نشر الأبجدية على المستوى العالمي.
ويؤكد مؤرخون وعلماء آثار؛ أن العربية كانت معروفة ومحكية في مصر قبل دخول الإسلام، ما سهَّل على الفاتحين بقيادة عمرو بن العاص، نشر الدين الحنيف، وترسيخ لغة القرآن في كل مفاصل الحياة العامة. ولم يحصل أن كانت العربية محل خلاف عبر التاريخ بين المصريين. والاعتماد المتوازن على الموروثات، كما على الوقائع، يؤكد سلاسة تطور العربية في بلاد النيل والنوبة، ومن هذه المناطق تمّ لاحقاً تطوير قواعد اللغة العربية وأصولها، ومدارس الأزهر الشريف كمرجع لغوي ليست مصادفة تاريخية، بل فعلٌ مترابط مع الحيثيات الموضوعية، من حيث المكان ومن حيث الزمان.
يؤكد نقاش جرى بحضورنا بين أساتذة جامعيين، أن العروبة مترسخة في المجتمع المصري منذ القِدم. والمصرية لم تكُن حصرية جغرافية، بل هي أساس في حضارة مترابطة جمعت بين بلاد الشام والحجاز وشمال إفريقيا، ما يؤكده زواج النبي إبراهيم (من بلاد ما بين النهرين – العراق اليوم) من السيدة هاجر (المصرية). والعربية المحكية كانت منتشرة في هذا الترابط، وقد اجتمعت شعوب تلك البقاع على محاربة التتار والفرس والصليبيين انطلاقاً من خلفيات عربية مشرقية، لا لبس فيها.
ويقول متابعون من هؤلاء الأساتذة؛ إن ما يُطرح من قبل بعض المجموعات التي تطالب بفصل الهوية المصرية عن العروبة، يُشبه ما عملت له الجماعات الإسلامية المتطرفة أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهؤلاء كانوا يعملون على فصل الهوية الإسلامية عن العروبة، واعتبار العروبة جزئية لا تمثل كل الأمة المصرية، نكاية بالمد القومي العربي الشامل الذي عمل له عبد الناصر، ولاقى محاربة واسعة من حركة «الإخوان» ذاتها.
ونرى اليوم تشجيعاً لهذه الطروحات التي تنادي بالفصل بين الهوية المصرية والعروبة من قبل جهات خارجية، لا سيما من المجموعات التي تلقى الرعاية من أوساط في إسرائيل وفي الولايات المتحدة، وهناك موازنات مالية كبيرة تصرف للتشويش على الثقافة العربية والشرقية عامة، ومنها لتعميم أفكار حرية اختيار الجنس وتشجيع الزواج بين المثليين، وغيرهما.
لا يوجد أي تناقض بين الهوية المصرية والهوية العربية، بل على العكس من ذلك، فقد أجمع المصريون على الانتماء العربي لكونه عامل وحدة وقاسماً مشتركاً بين القُبط المسيحيين وبين المسلمين.
("الخليج") الإماراتية