بصمات

الحوار الحقيقي في العالم العربي!

لقد اكتسب الحوار أهميّةً قصوى في مختلف المنظومات الفكرية والثقافية التي عرفتها عديد الحضارات البشرية. ففي الفلسفة الإغريقية، مَن منّا لا يتذكّر محاورات سقراط وأفلاطون ودورها في إثارة الدهشة والتساؤل المُفضيَيْن إلى المعرفة. ويغلب على النصّ القرآني طابع سجالي برهاني في مجادلة محاوريه. ولعلّه لذلك ولمّا لا يتّسع السياق إلى تفصيله، يجوز القول إنّ الحوار يُمثّل أفقًا للفكر لما يفتحه من آفاقٍ رحبةٍ للنظر والتدبّر والتساؤل.

الحوار الحقيقي في العالم العربي!

إنّ الحوار ليس فقط آليةً تواصليةً في المحاججة والإقناع، وإنّما كذلك فنّ في إدارة الشأن العام وتدبير الاختلاف لمعالجة مختلف الإشكاليّات والقضايا. فإذا كانت السياسة فنّ الحكم، فإنّ الحوار فنّ البحث عن حلول في المنعطفات الحاسمة من تاريخ الزمن الراهن، بحكم أنّ الحوار الحقيقي "يقوم فيه العارض بإطلاع المعروض عليه على النتائج التي توصّل إليها، وعلى المراحل التي قطعها، وعلى الوسائل التي انتهجها"، حسب تعريف المفكّر المغربي طه عبد الرحمن.

من نتائج ضعف ثقافة الحوار تصحّر الثقافة السياسية وتكلّسها

لو انطلقنا في دراسة الحالة العربية الراهنة من فرضيةٍ أساسيةٍ مفادها بأنّ غياب ثقافة الحوار كلّف العالم العربي خسائر فادحة في مستوى إهدار الطاقات وتشتيت الجهود ووأد الكفاءات، لتوصّلْنا إلى رصد مؤشّرات وقرائن كثيرة تدعم تلك الفرضية وتُثبتها. فما يُلاحَظ منذ منتصف خمسينيّات القرن العشرين إلى اليوم أنّ مفهوم الحوار تعرّض إلى انتكاسات كبرى شوّهته ومسخته. فبعد أن كان خلال مرحلة الكفاح الوطني ضدّ الاستعمار الفرنسي في تونس مثلًا، إطارًا جامعًا لتوحيد الصفوف ضمن ما عُرِفَ بمؤتمر "ليلة القدر سنة 1946" - الذي أجمعت فيه مختلف القوى الوطنية على المطالبة بالاستقلال التامّ - تحوّل في المراحل السياسية اللّاحقة مع دولة ما بعد الاستقلال، إلى آلية مخاتلة وخداع سياسيّين ضمن عناوين برّاقة مثل "الوحدة الوطنية الصمّاء" سنة 1960، و"الميثاق الوطني" سنة 1988، و"التوافق الوطني" سنة 2012. إذ سرعان ما يتمّ الانقلاب على نتائجه بتغيّر التوازنات الداخلية وخفوت الضغوطات الدولية المُطالبة بالديموقراطية وشفافية العملية الانتخابية واحترام حقوق الإنسان.

لقد كان من نتائج ضعف ثقافة الحوار تصحّر الثقافة السياسية وتكلّسها لدى مختلف النّخب، إذ هيمنت ثقافة النّمط الواحد أو الصفوة المختارة أو الفرقة الوحيدة الناجية التي تحتكر الحقيقة المطلقة، وتُفاضل بطهرانية مزعومة لا لبس فيها. وتمّ تكريس ذلك الطابع الأُحادي بحجّة القوة لا قوة الحجّة؛ فعندما تغيب الفكرة يبزغ الصنم كما قيل. لذا فإنّ ما يلاحظ من تفكّكٍ سياسيّ وتناحُرٍ اجتماعيّ، ونزوعٍ للاستقواء بالأجنبي، ليس إلّا ارتدادات مباشرة لغياب ثقافة الحوار الحقيقي القادر على إدارة الاختلاف والتنوّع.

الحوار الحقيقي يستمدّ مشروعيّته من الواجب الوطني والقومي ويكشف الرهانات الإيديولوجية والمذهبية المُضمرة

إذا كان "الحوار التشبيهي" يعتمد المخاتلة والخداع للتوصّل إلى توافقٍ مغشوشٍ هدفه المحافظة على التوازنات القائمة والمصالح الفئوية الخاصّة، فإنّ الحوار الحقيقي يستمدّ مشروعيّته من الشعور بالمسؤولية التاريخية والواجب الوطني والقومي بحكم استناده إلى أساسٍ أخلاقيّ متينٍ، وليس إلى مناورات تضليلية أو "أخلاقيات السطح".

لما كانت السياسة فنّ المتاح والممكن، فإنّ الحاجة إلى الحوار بين مختلف الفرقاء السياسيين والاجتماعيين العرب سواء داخل البلد الواحد أو ضمن تكتّل إقليمي واسع ضرورة أخلاقية وتاريخية. ذلك أنّ عملية الفرز التاريخي بين القوى الطامحة إلى التحرّر من الوصاية والتبعيّة، للانصهار في مشروعٍ حضاريّ وفق برامج محدّدة، والقوى المعاكسة لحركة التاريخ لا يمكن أن تتمّ إلّا بالحوار المسؤول قبل أيّ شيء آخر، لأنّ من النتائج المترتّبة على الحوار الحقيقي كشفه لمختلف الخلفيّات الإيديولوجية والمذهبية ورهاناتها المُضمرة. وهو ما يمهّد لانتهاج آلياتٍ أكثر نجاعةً وفعّاليةً في مراحل لاحقة.

الاعتراف بالأخطاء الذاتية وتصحيحها يشكّل مهادًا أوّليًا لصياغة رؤية واضحة للحاضر والمستقبل

يتطلّب الحوار الحقيقي تصحيحًا ذاتيًا ومراجعات جذرية معمّقة. إذ لا يمكن الاطمئنان إلى القوالب المنمّقة الجاهزة القائمة على الارتجالية والرعونة. فقبل المطالبة باعتراف الآخر، لا بدّ من الشجاعة في الاعتراف بالأخطاء الذاتية وتصحيحها لأنّ ذلك الاعتراف يشكّل مهادًا أوّليًا لصياغة رؤية واضحة للحاضر والمستقبل. وهو ما يفرض تحدّيات كبرى على مختلف العناصر المشاركة فيه.

يمكن للحوار الحقيقي أن يشكّل أساسًا مرجعيًا لرأب تصدّعات الماضي وجراحاته قصد بناء ذاكرة حيّة لا تلتفت إلى الماضي إلاّ لتتجنّب عوامل خيباته وإخفاقاته بما يُعزّز توهّج الذات لكسب تحدّيات الحاضر وبناء المستقبل. وهو ما قد يُيسّر التوصّل إلى توافقٍ متينٍ يغلّب المصالح الوطنية والقومية على المصالح الشخصية والحزبية والقطاعية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن