تقدير موقف

لبنان: حين يصبح الصمت سياسة... والحرب قدرًا!

يكثر الحديث عن احتمال تجدّد الحرب الإسرائيلية على "حزب الله" في لبنان، وسط رضا دولي وأميركي، ما يدفع إلى السؤال: لماذا يتغاضى العالم عن حربٍ محتملةٍ في لبنان، فيما يُجمع على ضرورة وقف الحرب في غزّة؟!.

لبنان: حين يصبح الصمت سياسة... والحرب قدرًا!

أوّل ما يتبادر إلى الذهن، كجواب، هو ما عاشته وتعيشه غزّة من كارثةٍ إنسانيةٍ غير مسبوقةٍ تستدعي وقف الحرب فورًا. فقد شهد القطاع خلال السّنتَيْن المُنصرمتَيْن جحيمًا من الموت والنزوح والتدمير المُمنهج لم تعرفه أيّ مدينة منذ الحرب العالمية الثانية، مُتجاوزًا كلّ المعايير الإنسانية المُتعارف عليها. هذه الحرب التي اندلعت إثر عملية "طوفان الأقصى" تجاوزت إطار الردّ عليها إلى أهدافٍ أوسع أفادت من العملية لتحقيق مُتغيّراتٍ جيوسياسيةٍ جذريةٍ في المنطقة تلتقي عليها إسرائيل وأميركا ودول غربية كثيرة، أبرزها فكّ الطوق الإيراني المُمانع عن إسرائيل وإنهاك حلفاء طهران في المنطقة، "حماس" و"حزب الله"، وإسقاط حليفها الرئيسي في سوريا، نظام الأسد، والوصول إلى إبعادها من المشرق العربي، إن لم يكن طردها منه، بعد عبثها بأمنه واستقراره على مدى عقود.

هذه الأهداف تجعل من حربَيْ لبنان وغزّة مُترابطَيْن لجهة الأهداف المذكورة آنفًا، بخاصةٍ أنّ "حزب الله" استدعى الحرب إلى لبنان بعد إعلانه انخراطه في "حرب المساندة والإشغال" في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

الدول المهتمّة بالشأن اللبناني يَئِسَت من لبنان واللبنانيين بعد سنوات من المبادرات ومئات الموفدين والمبعوثين الرئاسيين

حروب لبنان مع إسرائيل سبقت حرب غزّة بعقودٍ وتعود إلى الاجتياح الإسرائيلي الأول سنة 1978. أمّا الحرب ضدّ "حزب الله" فمستمرّة بأشكالٍ مختلفةٍ منذ أكثر من عشرين سنة، وأبرز محطاتها حربا 2006 و2023–2024، والأخيرة لم تتوقّف فعليًا على الرَّغم من اتفاق وقف العمليات القتالية، فيما الجميع يترقّب جولةً جديدةً في أي لحظة.

لماذا يُترك لبنان بين "شَاقوفَيْ" إسرائيل و"حزب الله"؟ الأسباب كثيرةٌ يتقدّمها أنّ الدول المهتمّة بالشأن اللبناني، الغربية والعربية لا سيما الصديقة، يَئِسَت من لبنان واللبنانيين بعد سنواتٍ من المبادرات ومئات الموفدين والمبعوثين الرئاسيين الذين اصطدموا بعجزٍ مُزمنٍ عن حلّ أزمات لبنان الداخلية، وبشبكةٍ مُعقّدةٍ من التدخلات الخارجية الفلسطينية والسورية والإيرانية.

باتت إدارة الأزمة إنجازًا يُعَدُّ في نظر أهل السلطة أهون الشرور

لا شكّ أنّ تداخل العوامل الداخلية مع الامتدادات الخارجية يُعقّد المشهد، غير أنّ المسؤولية لا تقع على الخارج وحده. فالسلطة في لبنان، منذ السبعينيّات، لم تمارس دورها كسلطةٍ قادرةٍ على احتكار القوة وفرض القانون وتحقيق السيادة. الطابع الغالب كان دائمًا الارتهان لمَن يملك النفوذ الخارجي، أو الاكتفاء بإبقاء الأمور على حالها وإدارة التوازنات الهشّة بسياسة تدوير الزوايا والتسويات الظرفية و"التذاكي". باتت إدارة الأزمة بحدّ ذاتها إنجازًا يُعَدُّ، في نظر أهل السلطة، أهون الشرور. في ظلّ هذا النهج، ترسّخت حالة المراوحة، وانحصر الفعل السياسي في معالجة الهموم الداخلية اليومية، بينما تواصل المنطقة تغيير خرائطها وتوازناتها من دون أن يكون للبنان موقع فاعل في ما يجري حوله.

من بين العوامل التي تُفسّر اختلاف التعامل الدولي مع لبنان مقارنةً بغزّة ما برز بوضوحٍ في قمّة "شرم الشيخ" التي تبنّت خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ذات العشرين بندًا، والرامية إلى وقف الحرب في غزّة والشروع في سلام إقليمي طويل الأمد. فالحرب على غزّة استهدفت في جوهرها اقتلاع السكّان من أرضهم وضمّها، وهو ما يتعارض مع السياسة الأميركية والغربية المُعلنة في المنطقة. هذه السياسة تلتقي مع إسرائيل في هدف القضاء على "حماس"، لكنّها لا تتبنّى استهداف الشعب الفلسطيني أو إلغاء وجوده. إسرائيل، في نظر الكثيرين، ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك في غزّة.

لبنان بواقعه الحالي مع وجود "حزب الله" المُسلّح وارتباطه العضوي بإيران يقف على نقيض مقرّرات قمّة شرم الشيخ

أمّا في لبنان، فالحرب الإسرائيلية اتّسمت في أغلب مراحلها بتركيزٍ أكبر على "حزب الله": قياداته وبنيته ومقاتليه وقدراته العسكرية. ما أصاب المدنيين من أضرارٍ كان في معظمه مرتبطًا بتداخل الحزب ومخازن أسلحته وصواريخه ضمن النسيج السكّاني للمدن والقرى. من زاويةٍ أخرى، يتقاطع هذا النهج مع الأهداف الأميركية والغربية الأوسع في المنطقة، وفي مقدّمها تفكيك المنظمات المسلّحة الخارجة عن سلطة الدولة، و"حزب الله" في صدارة هذه القائمة. هذه المهمّة، بحسب التقييمات الدولية، لم تُستكمَل بعد في لبنان.

في هذه المشهديّة، يبدو أنّ السلطة اللبنانية بمواقفها المتباينة، تعيش في عالمٍ آخر، وكأنّها غائبة تمامًا عمّا تحقّق في قمّة شرم الشيخ من انخراطٍ غير مسبوقٍ لدولٍ تُمثّل أكثر من مليار ونصف مليار عربي ومسلم، إلى جانب الولايات المتحدة وأوروبا، في مسارٍ هدفه إنهاء النزاع العربي - الإسرائيلي وإرساء سلامٍ دائمٍ في المنطقة. الدول المعنية بالشأن اللبناني تجد صعوبةً في فهم هذا الأداء، وبالنسبة إليها، ولإسرائيل خصوصًا، فإنّه لن يسفر إلّا عن تمكين "حزب الله" وإعادة ترميم قدراته السياسية والعسكرية، ما يُضاعف المخاطر على إسرائيل وحدودها الشمالية، وعلى سوريا التي لا تزال في طور التعافي وإعادة بناء دولتها، فيما تخوض معارك داخلية وخارجية عديدة، أهمّها السعي الإيراني إلى تعويض ما خسرته من نفوذٍ في سوريا. من هنا يتبدّى منطق الدول الغربية والعربية: لا قبول بتعطيل مسار السلام، ولا تساهل مع أيّ عرقلة تعترض بناء الدولة في سوريا بدورٍ مختلفٍ هذه المرة يُراد له أن يسهم في أمن الإقليم واستقراره بدل أن يكون عبئًا عليه.

إذا استمرّ أداء السلطة على ما هو عليه سيصعب تجنُّب الكأس المُرّة

الدول الصديقة للبنان تُدرك تمامًا أن استعادة "حزب الله" لقوّته وتمسّكه بسلاحه باتا يشكّلان خطرًا وجوديًا على الكِيان اللبناني، إذ يتمترس الحزب خلف الطائفة الشيعية التي تُشكّل نحو ثلث اللبنانيين، ويتحدّث باسمها، ويواجه كلّ من يحاول الخروج على سلطته بالترغيب أو بالترهيب. أيّ محاولة للتصدّي للحزب من الداخل سرعان ما تُصوّر اعتداءً على الطائفة، ما يخلق خطًا أحمر يصعب المساس به. انفجار هذا التناقض لن يقتصر أثره على لبنان وحده، بل سيصيب ما يمثّله من تجربةٍ نادرةٍ في المنطقة للعيش المشترك والتعدّدية والديموقراطية والحريات الفردية.

لبنان بواقعه الحالي، مع وجود "حزب الله" المُسلّح وارتباطه العضوي بإيران، يقف على نقيض ما تسعى إليه الولايات المتحدة ومعظم الدول التي التقت حول مقرّرات قمّة شرم الشيخ، والسؤال المطروح بجدّية اليوم: هل يمكن لتجربة غزّة أن تتكرّر في لبنان؟!.

إذا استمرّ أداء السلطة على ما هو عليه، سيصعب تجنُّب الكأس المُرّة بما تحمله من مخاطر مصيرية على مستقبل البلد. ومن ناحية أخرى، قد لا يكون الصمت الدولي ضوءًا أخضر للحرب بقدر ما هو أقسى أشكال الإنذار: ضغطٌ على السلطة اللبنانية كي تبادر وتستعيد بعضًا من السيادة المفقودة، أو تتحمّل نتائج ترك القرار والسلاح في يد قوةٍ خارج الدولة.

الرسالة واضحة: تحرّكوا...!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن