لقد عانت هذه البلدان من مشكلاتٍ هيكليةٍ مستمرّةٍ تتعلّق بالحوكمة والأطر التنظيمية، والاقتصادات التي تُهيمن عليها الدولة، والقطاعات العامة المُتضخّمة التي تكبح نموّ القطاع الخاص، وضعف تعبئة الإيرادات المحلّية، وسوء توجيه الإعانات. وهذه المشكلات قائمةٌ منذ زمنٍ بعيدٍ، ويرجع ذلك أساسًا إلى قصور الإصلاحات. كما أنّ اعتماد هذه البلدان على أسعار صرف ثابتة وتمويل الديون ساهم أيضًا في نشوء أزمة قيد التشكّل. وقد تفاقَمَ الوضع بفعل التقلّبات الاقتصادية العالمية والصدمات الأخيرة، مثل أزمة غزّة وتداعيات غزو روسيا لأوكرانيا، فضلًا عن التحدّيات المجتمعيّة وانعدام الثقة بالحكومة. ونتيجةً لذلك، استُخدم الدين العام كحلٍّ موقتٍ لتأجيل معالجة المشكلات الاقتصادية، ولكن من دون إيجاد حلول دائمة.
وبشكلٍ أكثر تحديدًا، عانت مصر من سنواتٍ من الركود الاقتصادي، يُعزى جزئيًا إلى سيطرة الجيش الشاملة على الاقتصاد، بالإضافة إلى انخفاض عائدات السياحة وقناة السويس نتيجة المخاوف الأمنية وسلامة الملاحة في البحر الأحمر. وقد أدّى استمرار العجز في الميزانية والحفاظ على سعر صرفٍ ثابتٍ إلى احتياجات تمويلية كبيرة، تمّت تلبية جزءٍ منها من خلال تدفّقات رأس المال قصيرة الأجل. وبالتّالي، تبلغ الاحتياجات التمويلية الإجمالية لمصر حوالي 30% من ناتجها المحلي الإجمالي، ممّا يجعلها عرضةً بشكل كبير لارتفاع أسعار الفائدة ومخاطر التمديد[3].
شبح الديون غير المستدامة وإعادة الهيكلة المؤلمة يلوح في الأفق على البلدان العربية المُثقلة بالديون
أمّا الأردن، فيواجه انخفاضًا في النموّ يعود جزئيًا إلى سعر الصرف الثابت المرتفع، إلى جانب الاضطرابات الجيوسياسية والاقتصادية. وتُكافح البلاد للسيطرة على ماليّتها العامّة المُثقلة بالإعانات الضخمة والتحويلات إلى المؤسّسات العامة والنفقات الأمنية، مع اعتمادٍ شديدٍ على المساعدات الرسمية. وعلى الرَّغم من أنّ الأردن يمتلك إطارًا أكثر فعّاليةً لوضع السياسات مقارنةً بالدول الثلاث الأخرى، ويحقّق أداءً جيدًا ضمن برنامج "صندوق النقد الدولي" الحالي، إلّا أنّ ديونه المرتفعة تجعله عرضةً للتأثّر بالتطوّرات السلبية.
في لبنان، كانت أزمة الديون مدفوعةً بنظام غير مستدام قائم على أسعار صرف ثابتة مرتفعة ومالية عامة ضعيفة، ما استلزم أسعار فائدة مرتفعة لجذب التدفّقات الأجنبية وهو ما يشبه مخطط "بونزي" الكلاسيكي. وقد أدّى هذا النظام الخاطئ، إلى جانب الاضطرابات السياسية والأمنية، إلى أزمة اقتصادية واجتماعية مُتعدّدة الأوجه، نتج عنها التخلّف عن سداد الديون الخارجية السيادية.
أمّا تونس، فهي الدولة الوحيدة من دول "الربيع العربي" التي بدا أنّها تتّخذ خطواتٍ نحو تعزيز الديموقراطية والحكم الرشيد، إلّا أنّ الدور المتزايد للحكومة كمزوّدٍ للوظائف والإعانات، وإصرار السلطات على الحفاظ على استقرار سعر الصرف حتى عندما كان ذلك غير ميسورٍ، جعل البلاد تعتمد على التدفّقات الخارجية، خصوصًا من الدائنين الرسميين الذين دعموا الانتقال الديموقراطي. غير أنّ الاضطرابات السياسية الأخيرة التي قوّضت التقدم الديموقراطي ورفض تنفيذ الإصلاحات اللّازمة، أضعفت قدرة تونس على سداد ديونها، ما أدّى إلى مشكلة ديونٍ تزداد صعوبة.
ونتيجةً لذلك، يلوح شبح الديون غير المستدامة وإعادة الهيكلة المطوّلة والمؤلمة في الأفق على البلدان العربية المُثقلة بالديون. ويمكن التخفيف من هذه المخاطر من خلال مزيج من السياسات المُعزِّزة للنموّ، والتمويل الجديد، ودرجة معينة من الترشيد المالي. ومع ذلك، تبدو التوقّعات قاتمةً في الوقت الحالي.
أولًا، يواجه الاقتصاد العالمي توقّعات نموٍّ غير مؤكدة في ظلّ استمرار ارتفاع معدلات التضخّم.
ثانيًا، سيشكّل تأمين التمويل الخارجي تحدّيًا كبيرًا، وإذا تمّ الحصول عليه، فسيكون بأسعار فائدة مرتفعة نسبيّا. وقد قامت دول "مجلس التعاون الخليجي" الغنية بالنفط، التي كانت توفّر تقليديًا تمويلًا كبيرًا، بتجديد استراتيجيتها للمساعدات، مؤكدةً الآن على التزام ملموس وموثوق من المُقترضين بإجراء إصلاحات هيكلية، بما في ذلك تلك التي تهدف إلى جعل اقتصاداتهم أكثر جاذبيةً وكفاءةً للاستثمار الأجنبي المباشر.
ثالثًا، على الرَّغم من أنّ الإصلاح المالي قد يكون مفيدًا، إلّا أنّه لا يضمن خفض الديون، نظرًا للمناخ الاجتماعي والسياسي المتوتّر في البلدان العربية المثقلة بالديون، حيث سيكون من الصعب على الجمهور قبول خفض الإنفاق، بخاصة على الإعانات. وقد يكون من المُغري لهذه البلدان أن تستمرَّ في التخبّط على أمل أن تنقذها الجهات المانحة والوكالات المتعدّدة الأطراف، أو أن تلجأ بعض البلدان إلى مفاجآت التضخّم لتخفيف عبء ديونها المحلية[4].
مشكلة الديون ناجمة عن أوجه القصور في السياسات وسوء الحوكمة
إذن، ما هي الخطوة التالية، وما هو المسار الصحيح الذي يجب اتّباعه؟ من المهم، أو الأمر الذي يجب تذكّره، هو أنّ ضعف المالية العامة يعكس اقتصادًا ضعيفًا وسوء إدارة للموارد. وفي هذا الصدد، تجد الدول العربية المثقلة بالديون نفسها على طريق مشكلة ديون ناجمة عن أوجه القصور الداخلية في السياسات وسوء الحوكمة وصعوبة الظروف الاقتصادية العالمية.
ويتطلّب تجنّب ذلك إصلاحات حقيقية، سياسية واقتصادية على حدٍّ سواء، والاستعداد والقدرة على مواجهة إعادة هيكلة الديون. والوقت عامل أساسي، إذ تتطلّب حلول هذه المشكلة القديمة والمتكرّرة إجابات جديدة وشجاعة. والمسألة الأساسية هي ما إذا كانت هذه البلدان ستلتزم بالتغييرات اللّازمة في الحوكمة والاقتصاد، ولديها الإرادة السياسية لتنفيذها.
[1] نستثني البحرين من التحليل.
[2] للمزيد حول هذه القضايا كما نوقشت في هذا المقال، انظر: مزارعي، أ. "غيوم الديون على الشرق الأوسط"، المالية والتنمية، سبتمبر/أيلول 2023.
[3] صندوق النقد الدولي، "توقعات الاقتصاد العالمي"، نيسان/أبريل 2023.
[4] صندوق النقد الدولي، توقعات الاقتصاد الإقليمي للشرق الأوسط وآسيا الوسطى، أيار/مايو 2023.
(خاص "عروبة 22")