تَحْليلِيًّا، تَمَّتِ اسْتِعارَةُ مَفْهومِ "الزَّمَنِ العَمِيقِ لِلهِجْرَةِ" مِنَ الجِيولوجِيا ــ الَّذِي يُشارُ فِيهِ إلى الفَتَراتِ الطَّويلَةِ جِدًّا الَّتِي يَتَشَكَّلُ فِيهَا كَوْكَبُ الْأَرْضِ عَبْرَ مَلايينِ السِّنينَ ــ لِفَهْمِ وَتَفْسيرِ تَحَرُّكاتِ البَشَرِ على سَطْحِ الأَرْضِ، فِي تَفاعُلٍ مُسْتَمِرٍّ مَعَ البِيئَةِ وَالمُناخِ وَالكَوارِثِ الطَّبيعيَّةِ وَفُرَصِ الِاسْتِقْرارِ وَالنُّموِّ، بِاعْتِبارِ كُلِّ ذَلِكَ جُزْءًا مِنَ التَّدَفُّقاتِ المَجالِيَّةِ لِأَجْساد بَشَرِيَّة خَضَعَتْ تارِيخِيًّا لِمَجْمُوعَةٍ مِنَ المُحَدِّداتِ وَالشُّروطِ وَالدَّوافِعِ البَراغْماتِيَّةِ (التَّنَقُّلِ، التَّبادُلِ، الغَزْوِ، التَّهْجيرِ، الِاسْتِعْمارِ، وَالِاقْتِصادِ العالَميِّ). كَما اتَّخَذَتِ اتِّجاهاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَلَيْسَ فَقَطْ مِنَ الْجَنوبِ نَحْوَ الشَّمالِ. مِنْ ذَلِكَ، وَخِلافًا لِلمَنْظورِ السِّياسِيِّ لِلهِجْرَةِ كَأَزْمَةٍ وَمَخاطِرَ، تَحَوَّلَتِ الظّاهِرَةُ فِي المَحافِلِ الأَكاديميَّةِ وَاللِّقاءاتِ العِلْميَّةِ الدَّوْليَّةِ نَحْوَ إِطارٍ جَدِيدٍ يُحِيلُ إلى "عَصْرِ الأَنْثْروبوسينِ"، الَّذِي يُحَدِّدُ أَزْمَةَ الهِجْرَةِ، كَكارِثَةٍ طَبيعيَّة مِنْ صُنْعِ الإِنْسانِ نَتِيجَةَ الِاسْتِعْمالِ الجائِرِ وَغَيْرِ العادِلِ لِمَوارِدِ هَذا الكَوْكَبِ، حَيْثُ يَتَحَمَّلُ الفُقَراءُ العِبْءَ الأَكْبَرَ مِنْ آثَارِها (الحُروبِ، أَزْمَةِ المُناخِ، شُحِّ المَوارِدِ، الجَوائِحِ وَالكَوارِثِ الطَّبيعيَّةِ...).
يُعاد ترميز وبرمجة التحَيُّزات وأشكال العنصريّة الحاصلة في الواقع والمجتمع في أنظمة الذكاء الاصطناعي
وفي ظِلِّ انْتِقالِ مُعْظَمِ المُجْتَمَعاتِ الحالِيَّةِ خَاصَّةً فِي الشَّمالِ ــ المُجْتَمَعاتِ الجاذِبَةِ لِلهِجْرَةِ ــ نَحْوَ المُجْتَمَعِ الشَّبَكِيِّ وَالحَوْسَبَةِ السَّحابِيَّةِ وَهَيْمَنَةِ البَياناتِ، تَحَوَّلَ مَوْضوعُ الهِجْرَةِ نَحْوَ مَساراتٍ أَكْثَرَ تَعْقيدًا وَتَحَيُّزًا وَتَضَيُّقًا لِمَفاهيمِ الحُقوقِ وَالحُرّياتِ وَالدّيموقْراطيَّةِ وَقِيَمِ التَّعايُشِ وَالتَّسامُحِ وَقَبولِ الِاخْتِلاف. تَتَحَكَّمُ في هَذِهِ المُجْتَمَعاتِ قِيَمُ الرَّجُلِ الأَبْيَضِ كَمالِكٍ وَمُهَنْدِسٍ وَمُدِيرٍِ للشَّرِكاتِ المالِيَّةِ الكُبْرَى، وَالمِنَصّاتِ الرَّقْميَّةِ، وَيَقَعُ كُلُّ ذَلِكَ حالِيًّا تَحْتَ قَبْضَةِ قُوَّى اليَمينِ المُتَطَرِّفِ، مِنْ أَجْلِ التَّحَكُّمِ فِي السِّياساتِ وَالرَّأْيِ العامِّ وَنَشْرِ الأَخْبارِ الكاذِبَةِ وَالمُفَبْرَكَةِ وَالتَّلاعُبِ بِالِانْتِخاباتِ وَمَجْرَى الأَحْداث.
تُمْنَحُ الأَوْلَوِيَّةُ لِلدّافِعِ التِّكْنولوجيِّ نَحْوَ التَّطْويرِ وَزِيادَةِ قُدْرَةِ الآلَةِ على التَّعَلُّمِ وَالِابْتِكارِ وَاتِّخاذِ الْقَرارِ، على حِسابِ احْتِياجاتِ وَظُروفِ الفِئَاتِ الهَشَّةِ وَالمُهَمَّشينَ وَالهارِبينَ مِنَ النّيرانِ وَمِنَ الفَقْرِ وَالِاضْطِراباتِ، إِذْ تَحَوَّلَتْ مَكاتِبُ الْهِجْرَةِ وَفِرَقُ مُراقَبَةِ الحُدودِ مُنْذُ مُدَّةٍ إلى ساحاتٍ وَمُخْتَبَراتٍ لِتَجْريبِ التِّقْنِياتِ الرَّقْمِيَّةِ في مِلَفِّ إِدارَةِ الهِجْرَةِ وَالمُهاجِرينَ، مِنْ خِلالِ تَجْريبِ وَاخْتِبارِ فَعالِيَّةِ تِقْنِياتِ المُراقَبَةِ وَالتَّسْجيلِ المُطَوَّرَةِ حَديثًا، وَآلِيّاتِ تَصْنيفِ المُهاجِرينَ وَبِناءِ النَّماذِجِ، وَوَضْعِ كُلِّ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ شَرِكاتٍ خَاصَّةٍ تَعْمَلُ وِفْقَ حِساباتِ وَإيدِيولوجيَّةِ مالِكيهَا وَمَسْؤوليها، وَلَيْسَ وِفْقَ مُتَطَلَِّباتِ وَقَوانينِ وَأَنْظِمَةِ المُؤَسَّساتِ وَالقَانونِ الدَّوْليّ. وَيُعادُ تَرْميزُ وَبَرْمَجَةُ التَّحَيُّزاتِ وَأَشْكالِ العُنْصُرِيَّةِ الْحاصِلَةِ فِي الواقِعِ وَالمُجْتَمَعِ فِي أَنْظِمَةِ الذَّكاءِ الِاصْطِناعيِّ وَتَعَلُّمِ الْآلَةِ، مِمّا يُؤَدّي إلى اسْتِهْدافٍ غَيْرِ مُبَرَّرٍ أَوْ غَيْرِ مُتَناسِبٍ لِمَجْموعاتٍ مُعَيَّنَةٍ (على أَساسِ العِرْقِ، أَوِ الجِنْسِ، أَوِ اللّوْنِ، أَوِ اللّغَةِ...)، مَعَ احْتِمالِ ارْتِكابِ أَخْطاءٍ بِنِسْبَةِ 20% بِحَسَبِ مُحَلِّلينَ.
أَحْدَثُ وَأَخْطَرُ هَذِهِ الأَنْظِمَةِ هُوَ القِياساتُ الحَيَوِيَّةُ (Biometrics) المُدْمَجَةُ فِي أَنْظِمَةِ الذَّكاءِ الِاصْطِناعِيِّ، حَيْثُ يَتِمُّ دَمْجُ بَياناتِ كامِيراتِ المُراقَبَةِ مَعَ كامِيراتِ المَسيراتِ، وَمُؤَشِّراتِ كُتْلَةِ الجِسْمِ، وَبِطاقاتِ الهُوِيَّةِ، وَأَجْهِزَةِ المَسْحِ الشّامِلِ، وَتِقْنِياتِ التَّعَرُّفِ إلى الوَجْهِ، وَالرّاداراتِ وَالسّونارِ وَالصُّوَرِ الْفَضائِيَّةِ، وَسِجِلّاتِ جَوازاتِ السَّفَرِ، وَبَياناتِ مُشَغِّلي الشَّبَكاتِ المَحْمولَةِ (CDR)، وَمَنْشوراتِ وَسائِلِ التَّواصُلِ الِاجْتِماعِيِّ، لِبِناءِ نِظامٍ مُتَكامِلٍ مِنْ مُجْتَمَعِ المُراقَبَةِ الشّامِلَة.
تحقيق العدالة يقتضي مُساءلة من يجمع البيانات وكيف تُصنّف ولأيّ غرض تُستعمل ومن المُتضرّر أو المُستفيد من استخدامها
وَعلى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ التِّقْنِياتِ لَيْسَتْ جَديدَةً، فَإِنَّ تَسارُعَ اسْتِخْدامِهَا ضِمْنَ انْدِماجٍ تِكْنولوجيٍّ واسِعٍ، زادَ مِنَ المَخاطِر المُرْتَبِطَةِ بِكُلِّ مُكَوِّنٍ مِنْ مُكَوِّناتِ المَنْظومَةِ الحَيَويَّةِ الرَّقْميَّة. وقد أَوْضَحَتْ مارِيانا مادْيانو، مِنْ خِلالِ مَفْهُومِها عَنِ "الِاسْتِعْمارِ التِّقْنيِّ" أَنَّ هُناكَ تَداعِياتٍ مُتَعَدِّدَةً تَتَعَلَّقُ بِالتَّحَيُّزاتِ وَالأَخْطاءِ البَيومِتْريَّةِ، وَضَعْفِ حِمايَةِ البَياناتِ، وَتَشارُكِها بَيْنَ الدُّوَلِ وَالشَّرِكاتِ التِّجارِيَّةِ لِأَغْراضِ المُراقَبَةِ وَالرِّبْحِ، إلى جانِبِ تَجْريبِ تِقْنِياتٍ غَيْرِ مُخْتَبَرَةٍ على فِئاتٍ هَشَّةٍ مِثْلِ المُهاجِرينَ، مَعَ اسْتِمْرارِ ارْتِفاعِ مَخاطِر اسْتِخْدامِ هَذِهِ البَياناتِ ضِدَّهُم، بحيث تَظَلُّ هَذِهِ البَياناتُ مُبَعْثَرَةً فِي الكَثِيرِ مِنَ الأَجْهِزَةِ وَعُقُولِ الذَّكاءِ الِاصْطِناعِيِّ، مَا يَجْعَلُها عُرْضَةً لِلِاخْتِراقِ وَالتَّلَاعُبِ وَارْتِكَابِ الأَخْطاءِ غَيْرِ المُبَرَّرَةِ، إِذْ قَدْ تُسْتَخْدَمُ ضِدَّ الأَفْرادِ لَحْظَةَ انْتِقالِهِمْ مِنْ مَناطِقِ نُفوذٍ إلى مَناطِقَ أُخْرَى، وَبِالتّالِي تَسْمَحُ لِأَنْظِمَةِ الذَّكاءِ الِاصْطِناعِيِّ بِتَصْفِيَتِهِمْ كَأَهْدافٍ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ مَعَ جَيْشِ الِاحْتِلالِ الإِسْرائيليِّ تُجاهَ سُكّانِ غَزَّةَ المَدَنِيّين. كَما قَدْ تُسْتَخْدَمُ ضِدَّهُمْ فِي طَلَباتِ اللّجوءِ أَوْ تَعْدِيلِ وَضْعِيَّةِ الإِقامَةِ أَوْ حَتَّى التَّقَدُّمِ لِشُغْلٍ أَوْ وَظيفَةٍ كَما هُوَ الأَمْرُ مَعَ طالِبِي اللّجوءِ فِي أَلْمانْيا، أَوْ حَتَّى احْتِجازِهِمْ وَإِجْبارِهِمْ على التَّرْحيلِ القَسْريِّ كَما هُوَ الشَّأْنُ فِي أَميرْكا، أَوْ احْتِجازِهِمْ فِي مُرَبَّعاتٍ سَكَنِيَّةٍ مُحَدَّدَةٍ وَوَضْعِهِمْ تَحْتَ كامِيرا المُراقَبَةِ طَوالَ الْوَقْتِ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ الإسْكَنْدِنافِيَّة.
لِمُواجَهَةِ وَضْعٍ بِهَذا التَّرَدِّي فِي قِيَمِ حُقوقِ الْإِنْسانِ وَحِمايَةِ الخُصوصِيَّةِ، تَرْتَفِعُ أَصْواتٌ وَلَوْ مِنْ بَعيدٍ مُتَمَسِّكَةً بِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَبادِئِ وَالْمُمارَساتِ الدّاعِيَةِ إلى ضَمانِ الْإِنْصافِ وَالْمُساواةِ وَالشَّفافِيَّةِ فِي جَميعِ مَراحِلِ دَوْرَةِ حَياةِ البَياناتِ: مِنْ جَمْعِها إلى مُعالَجَتِها وَاسْتِخْدامِها فِي أَنْظِمَةِ الذَّكاءِ الِاصْطِناعيِّ، أَيِ الدَّعْوَةِ إلى عَدالَةِ الْبَياناتِ، وَتَحْقِيقُها يَقْتَضِي أَوَّلًا وَأَخِيرًا مُساءَلَةَ: مَنْ يَجْمَعُ الْبَياناتِ؟ وَكَيْفَ تُصَنَّفُ؟ وَلِأَيِّ غَرَضٍ تُسْتَعْمَلُ؟ وَمَنِ الْمُتَضَرِّرُ أَوِ الْمُسْتَفِيدُ مِنِ اسْتِخْدامِها؟.
(خاص "عروبة 22")

