فِي لُبْنَانَ، نَشَأَتْ صَحَافَةٌ تُعَبِّرُ عَنْ آَرَاءَ وَأَفْكَارٍ تَتَعَلَّقُ بِالْوَطَنِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالتَّقَدُّمِ وَهِيَ مُفْرَدَاتٌ ذَاتُ حُمُولَاتٍ سِيَاسِيَّةٍ. أَمَّا فِي مِصْرَ الَّتِي عَرَفَتِ الصَّحَافَةَ الرَّسْمِيَّةَ مُبَكِّرًا، فَظَهَرَتْ فِيهَا صُحُفٌ تُعَبِّرُ عَنِ اتِّجَاهَاتٍ مُوَالِيَةٍ أَوْ مُعَارِضَةٍ، وُصُولًا إِلَى تَأْسِيسِ "الْحِزْبِ الْوَطَنِيِّ" بِزَعَامَةِ مُصْطَفَى كَامِل الَّذِي يُنَادِي بِمِصْرَ لِلْمِصْرِيِّينَ، وَلَكِنَّهُ يَرَى أَنَّ ارْتِبَاطَ مِصْرَ بِالدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ يَمْنَحُهَا مَكَانَة. وَفِي السَّنَةِ نَفْسِهَا 1907، تَشَكَّلَ "حِزْبُ الْأُمَّةِ" وَصَاحِبُ فِكْرَتِهِ هُوَ أَحْمَد لُطْفِي السَّيِّد الَّذِي يَدْعُو إِلَى اسْتِقْلَالِ مِصْرَ عَنْ أَيِّ رَابِطَةٍ خَارِجَهَا. وَهَذَا التَّعَارُضُ فِي الرَّأْيِ هُوَ أَسَاسُ الْحَيَاةِ السِّيَاسِيَّةِ.
وَنَشْأَةُ الْأَحْزَابِ تَتَعَلَّقُ بِالتَّطَوُّرَاتِ الَّتِي تَشْهَدُهَا الْبِلَادُ أَوِ الْأَحْدَاثِ الَّتِي تُشَكِّلُ مُنْعَطَفَات. فَفِي مِصْرَ، وَبَعْدَ الْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الْأُولَى، تَأَسَّسَ "حِزْبُ الْوَفْدِ" الْمُطَالِبُ بِالِاسْتِقْلَالِ بِزَعَامَةِ سَعْد زَغْلُول، وَسُرْعَانَ مَا تَشَكَّلَ حِزْبُ "الْأَحْرَارِ الدُّسْتُورِيِّينَ" مِنْ رِجَالِ "حِزْبِ الْأُمَّةِ". وَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ الشَّعْبِيَّةِ الْفَائِقَةِ الَّتِي مَثَّلَهَا "حِزْبُ الْوَفْدِ"، إِلَّا أَنَّ الْحِزْبَ الْمُقَابِلَ كَانَ مُنَافِسًا حَقِيقِيًّا، بِحَيْثُ إِنَّ اللَّعْبَةَ السِّيَاسِيَّةَ كَانَتْ تُؤَدِّي إِلَى تَشْكِيلِ الْحُكُومَاتِ مِنْ هَذَا الْحِزْبِ أَوْ ذَاكَ.
عطّلت الانقلابات العسكريّة الحياة السياسية فأُلْغِيَت السياسة التي تَقوم على مبدأ تدَاول السلطة بين موالاة ومعارضة
وَفِي لُبْنَانَ، تَأَسَّسَ "الْحِزْبُ الدُّسْتُورِيّ" بِزَعَامَةِ بشَارَة الْخُورِي عَامَ 1934، وَسُرْعَانَ مَا أَسَّسَ إِمِيل إِدِّة حِزْبَ "الْكُتْلَةِ الْوَطَنِيَّة". وَفِي سُورِيَا، كَانَتِ الْكُتْلَةُ الْوَطَنِيَّةُ الَّتِي تَضُمُّ شَخْصِيَّاتٍ بَارِزَةً قَادَتِ الْحَرَكَةَ الْمُطَالِبَةَ بِالِاسْتِقْلَالِ قَدِ انْشَقَّتْ لَاحِقًا إِلَى "الْحِزْبِ الْوَطَنِيِّ" وَ"حِزْبِ الشَّعْبِ". وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْزَابِ فِي مِصْرَ وَلُبْنَانَ وَسُورية، كَانَتْ مُتَأَثِّرَةً بِالْأَفْكَارِ اللِّيْبِيرَالِيَّةِ وَتَدَاوُلِ السُّلْطَة.
عَرَفَتْ هَذِهِ الْبُلْدَانُ حَيَاةً سِيَاسِيَّةً نَاشِطَةً فِي فَتْرَةِ الْوُجُودِ الِاسْتِعْمَارِيِّ وَفِي سَنَوَاتِ الِاسْتِقْلَالِ وَخَاضَتِ الْمَعَارِكَ الِانْتِخَابِيَّةَ الْبَرْلَمَانِيَّةَ وَشَكَّلَتْ حُكُومَات. وَقَدْ أَضْفَى تَأْسِيسُ الْأَحْزَابِ الْعَقَائِدِيَّةِ مِنْ شُيُوعِيَّةٍ وَقَوْمِيَّةٍ وَهِيَ أَحْزَابٌ رَادِيكَالِيَّةٌ تَعْمَلُ مِنْ أَجْلِ تَطْبِيقِ مَبْدَأٍ وَاحِدٍ، إِضَافَةً إِلَى ظُهُورِ جَمْعِيَّةِ "الْإِخْوَانِ الْمُسْلِمِينَ" ذَاتِ الْمَرْجِعِيَّةِ الدِّينِيَّة.
وَلَمْ تَسْتَمِرَّ الْحَيَاةُ الْبَرْلَمَانِيَّةُ سِوَى ثَلَاثَةِ أَوْ أَرْبَعَةِ عُقُودٍ فِي هَذَا الْبَلَدِ أَوْ ذَاكَ، وَهِيَ فَتْرَةٌ قَصِيرَةٌ لَا تَسْمَحُ بِرُسُوخِ التَّجَارِبِ الدِّيمُوقْرَاطِيَّة. حَتَّى عَرَفَتْ سُورِيَا ثُمَّ مِصْرُ وَبَعْدَهَا الْعِرَاقُ الِانْقِلَابَاتِ الْعَسْكَرِيَّةَ لِتَنْتَقِلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْيَمَنِ وَالْجَزَائِرِ وَالسُّودَانِ وَمُورِيتَانْيَا وَتُونِس.
الحركات الإسلاميّة التي تُعارض السلطة هي الأخرى ترفض مبدأ التعددية وتداول الحُكم
عَطَّلَتِ الِانْقِلَابَاتُ الْعَسْكَرِيَّةُ الْحَيَاةَ السِّيَاسِيَّةَ عَبْرَ إِلْغَاءِ الْأَحْزَابِ وَتَأْمِيمِ الصَّحَافَةِ وَإِلْغَاءِ الْبَرْلَمَانَاتِ الْمُنْتَخَبَةِ، وَحَلَّ مَكَانَ ذَلِكَ الْحَاكِمُ الْفَرْدُ الَّذِي يُعَيِّنُ الْحُكُومَاتِ وَالْبَرْلَمَانَاتِ عَبْرَ انْتِخَابَاتٍ شَكْلِيَّةٍ مَعْرُوفَةِ النَّتَائِجِ سَلَفًا. وَتَعِجُّ السُّلْطَةُ بِأَيْدِي الْقَائِدِ وَجَمَاعَتِهِ الضَّيِّقَةِ الَّتِي تُقَرِّرُ الْخُطَطَ الِاقْتِصَادِيَّةَ وَالْعَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّة. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ أُلْغِيَتِ السِّيَاسَةُ الَّتِي تَقُومُ عَلَى مَبْدَأِ تَدَاوُلِ السُّلْطَةِ بَيْنَ مُوَالَاةٍ وَمُعَارَضَةٍ وَيَجْرِي التَّنَافُسُ فِي إِطَارِ الْأَحْزَابِ بِبَرَامِجِهَا الْمُتَعَارِضَة.
نَقْدَ التجَارِب السياسيّة ومراجعة إخفاقات الأحزاب المُعارِضة شرطٌ ضروريّ لتأسيس مشروع سياسيّ مُعاصر
إِنَّ إِلْغَاءَ السِّيَاسَةِ أَدَّى إِلَى ظُهُورِ الْحَرَكَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَحْزَابِهَا، الَّتِي تُعَارِضُ السُّلْطَةَ، وَلَكِنَّهَا هِيَ الْأُخْرَى تَرْفُضُ مَبْدَأَ التَّعَدُّدِيَّةِ وَتَدَاوُلِ الْحُكْم.
مِنْ هُنَا، يُمْكِنُنَا أَنْ نُفَسِّرَ إِخْفَاقَاتِ ثَوْرَاتِ 2011، الَّتِي تَمَثَّلَتْ بِنُزُولِ الْمُوَاطِنِينَ إِلَى الشَّارِعِ مُطَالِبِينَ بِالْحُرِّيَّةِ وَالْعَيْشِ وَالْكَرَامَة. إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الثَّوْرَاتِ الشَّبَابِيَّةَ كَانَتْ تَفْتَقِرُ إِلَى الْبَرَامِجِ السِّيَاسِيَّةِ، كَمَا تَفْتَقِرُ إِلَى قِيَادَاتٍ مَنَعَ إِلْغَاءُ الْحَيَاةِ السِّيَاسِيَّةِ مِنْ حُضُورِهَا عَلَى امْتِدَادِ عُقُودٍ طَوِيلَة. وَلِهَذَا آلَ الصِّرَاعُ بَيْنَ السُّلْطَةِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى أَجْهِزَتِهَا الْأَمْنِيَّةِ وَبَيْنَ الْأَحْزَابِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَمْ تُحَصِّنْهَا شَعْبِيَّتُهَا، وَالَّتِي أَثْبَتَتْ عَجْزَهَا عَنْ فَهْمِ مُتَطَلَّبَاتِ تَدَاوُلِ السُّلْطَةِ وَعَدَمِ خِبْرَتِهَا فِي إِدَارَةِ شُؤُونِ الدَّوْلَة.
الأنظمة الأحاديَّة أفقرت الثقَافة باسم عقائد ومشاريع آلَت إلى الإخفاق
فَهَلْ يُمْكِنُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُسْتَعَادَ الْحَيَاةُ السِّيَاسِيَّةُ؟ مِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ عَوْدَةَ الْحَيَاةِ السِّيَاسِيَّةِ، لَا تَعْنِي عَوْدَةَ الْأَحْزَابِ الَّتِي انْدَثَرَتْ وَلَا الْأَحْزَابِ الْعَقَائِدِيَّةِ الَّتِي تَجَاوَزَهَا الزَّمَنُ بَعْدَ أَنْ سَاهَمَتْ هِيَ نَفْسُهَا فِي تَعْطِيلِ السِّيَاسَةِ، عِلْمًا أَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ الْمِفْتَاحَ السِّحْرِيَّ لِعَوْدَةِ الْحَيَاةِ السِّيَاسِيَّة. إِنَّ نَقْدَ التَّجَارِبِ السِّيَاسِيَّةِ عَلَى امْتِدَادِ عُقُودٍ سَابِقَةٍ وَمُرَاجَعَةَ إِخْفَاقَاتِ الْأَحْزَابِ الْمُعَارِضَةِ هُوَ شَرْطٌ ضَرُورِيٌّ لِتَأْسِيسِ مَشْرُوعٍ سِيَاسِيٍّ مُعَاصِرٍ يَأْخُذُ بِالِاعْتِبَارِ الْمُتَغَيِّرَاتِ الَّتِي شَهِدَهَا الْعَالَمُ الْعَرَبِيُّ وُصُولًا إِلَى اللَّحْظَةِ الرَّاهِنَة.
إِنَّ نَقْدَ تَجَارِبِ الْأَنْظِمَةِ الْأُحَادِيَّةِ وَبِنْيَتِهَا ذَاتِ الطَّبِيعَةِ الْأَمْنِيَّةِ، الَّتِي عَطَّلَتِ السِّيَاسَةَ وَأَفْقَرَتِ الثَّقَافَةَ بِاسْمِ عَقَائِدَ وَمَشَارِيعَ آلَتْ إِلَى الْإِخْفَاقِ، هُوَ أَيْضًا مِنْ مُسْتَلْزَمَاتِ بِنَاءِ تَفْكِيرٍ جَدِيدٍ يَقُومُ عَلَى مَبَادِئِ الِالْتِزَامِ بِالدُّسْتُورِ وَحَقِّ التَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ وَتَأْسِيسِ الْمُنَظَّمَاتِ وَاعْتِبَارِ تَدَاوُلِ السُّلْطَةِ هُوَ الشَّرْطُ لِعَوْدَةِ حَيَاةٍ سِيَاسِيَّةٍ مُنْتَظِمَة.
(خاص "عروبة 22")

