للمؤلف أعمال أخرى في الحقل البحثي نفسه، منها كتاب "يوتوبيا البرمجيّات الحرة" (Utopie du logiciel libre - 2018). والعمل للتذكير، مُؤسَّس على دراسات أجريت في الفترة الممتدة من 1990 إلى 2025، وخاصّةً في فرنسا والولايات المتحدة، انطلاقًا من مقابلات وخُلاصات أبحاث أكاديمية وأرشيف المنابر الإعلامية.
ما أكثر الأوهام التي كانت ولا تزال تروّجها إمبراطوريات الـ"غافام" (GAFAM)، ويُقصد بها كما هو معلوم، إمبراطوريات "غوغل" و"آبل" و"فيسبوك" (التي أصبحت تسمّى اليوم "ميتا") و"أمازون" و"مايكروسوفت"، ضمن إمبراطوريات أخرى. ومن بين هذه الأوهام، نذكر تلك الآمال بأن تكون التقنيات الرقمية، وعلوم الحاسوب، والإنترنت، تقنيات للتحرّر الإنساني، بمقدورها أن تؤدّي إلى ظهور مجتمعٍ يترك مساحةً أكبر للاستقلالية، وبإمكانها أيضًا أن تسمح بتفكيك مؤسّسات قائمة، من قبيل الدول أو الشركات الكبرى، وأن تكون إجمالًا، أداةً للديموقراطية.
عمالقة التكنولوجيا أصبحوا اليوم حلفاء للسلطة الرأسمالية
والحال أنّ هذا أمرٌ مستبعدٌ عند خبراء العالم الرقمي ومنهم مؤلّف الكتاب، ومنهم أيضًا بعض الأسماء البحثية العربية التي بدأت تُرسّخ اسمها في هذا المضمار، في انتظار الظّفر بالقليل أو بالكثير من الاعتراف الإقليمي قبل الاعتراف الدولي.
مردّ تلك الاستحالة، حسب سيباستيان بروكا، إلى أنّ شركات التكنولوجيا الكبرى تحتفظ بعلاقاتٍ أكثر تعقيدًا ممّا يُعتقد مع الحالمين بمثاليّة العالم الرقمي، وذلك لأسبابٍ عدّة، أقلّها إنّ هؤلاء العمالقة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ورثة الثقافة الأميركية المضادّة، أصبحوا اليوم حلفاءً للسلطة الرأسمالية القائمة. ففي غضون ثلاثة عقود تقريبًا، انتقلنا من نخبة شابّة متعطّشة للحرية كانت تدافع حينها عن تلك الثقافة المضادّة في وادي السيليكون في كاليفورنيا، إلى نخبة رأسمالية تُصنّف في خانة عمالقة التكنولوجيا، من أصحاب المليارات، ومن أصحاب الولاء لدونالد ترامب.
كما اتّضح عمليًا أمام العالم بأسره، في حفل تنصيب الرئيس الأميركي (20 يناير/كانون الثاني 2025)، مع حضور مارك زوكربيرغ (فيسبوك أو ميتا) وجيف بيزوس (أمازون) وسوندار بيتشاي (غوغل) وإيلون ماسك (إكس وتسلا) في حفل التنصيب هذا، قبل انسحاب الأخير لاعتبارات مركّبة، تتداخل فيها محدّدات السياسة والمال والإيديولوجيا، وليس هذا المقال محطّ التطرّق إليها. حفل التنصيب هذا، كان بوّابة إغلاق الأحلام واليوتوبيات التي تأسّس عليها خطاب شباب وادي السيليكون منذ عقودٍ مضت، حيث يرى المؤلّف أنّ مرحلة الأحلام والانتقادات السابقة، أُغلق بابها بشكلٍ نهائيّ في نهاية 2024، مباشرةً بعد فوز ترامب بكرسي الرئاسة، إثر تحالفه مع مدراء تلك الإمبراطوريات، لأنّنا سنعاين والعالم تحوّلًا إيديولوجيًا صريحًا في مواقف مدراء وادي السيليكون لصالح صنّاع القرار، وتمّ بالنتيجة، سحب البساط من يوتوبيات الرقمنة التقدّمية أو الرقمنة البديلة.
ليس صدفةً أنّه في عزّ تلك الحقبة اليوتوبية التي تلت تأسيس إمبراطوريات "الغافام"، تأسّست في الولايات المتحدة منظمات مثل "مؤسّسة الحدود الإلكترونية" التي تهدف إلى الدفاع عن الحريات في الفضاء السيبراني، وهي جمعية تمّ تمويلها في البدايات من قبل شركات مثل "آبل" و"مايكروسوفت" و"آي بي إم" (IBM)، لكن هذا زمن ولّى، وتمّ إغلاق قوسه رسميًا في مطلع 2025.
بل إنّ شباب الثقافة الأميركية المضادّة بالأمس، مُتهمون من قبل البعض اليوم بشبهة مراقبة مستخدمي الإنترنت في جميع أنحاء العالم، وهذه بوّابة أولى انتقادات المؤلّف لمشاريع هذه النخبة، ومفادها بأنّ هذه الإمبراطوريات تُدرك تمام المعرفة سُبُل الانقضاض على الثغرات التي فتحها الآخرون.
الإطار القانوني الذي يسمح لشركات التكنولوجيا بمراقبة نفسها مكّن إمبراطوريات "الغافام" من تشييد سلطتها الخاصة
يرى المؤلف أنّ إمبراطوريات "الغافام" استفادت على الخصوص من المعارك التي خاضتها شخصية علمية رصينة، هي جون بيري بارلو (1974 – 2018)، الذي أصدر في عام 1996 بيانًا يدعو إلى استقلال الفضاء السيبراني. وهو بالمناسبة، مؤسّس منظمة غير حكومية مكرّسة للدفاع عن حرية التعبير في العالم الرقمي، وفَعَلَ الشيء الكثير عبر بوابة العمل الأهلي والعالم الرقمي لمنع الدولة من التدخّل في الإنترنت.
ومن ثمرات مبادراته، ظفر المجتمع في تسعينيّات القرن الماضي بالإطار القانوني الذي ما زال موجودًا حتى اليوم والذي يسمح لشركات التكنولوجيا بمراقبة نفسها. والحال، أو قُل المفارقة، أنّ هذا القانون هو الذي مكّن إمبراطوريات "الغافام" أيضًا من تشييد سلطتها الخاصة، بينما كانت تروّج في حينه لخطاب الدفاع عن تلك الثقافة الأميركية المضادّة في حقبة يوتوبيا البدايات. وإن كانت هذه الإمبراطوريات تستغلّ الثغرات القانونية لما يخدم مصالحها، فمن باب أوْلى أن تستغل الثغرات التي تفتحها شركات أخرى في مجال المنافسة والاحتكار والضبط والمراقبة.
روح العالم الاجتماعي البولندي زيغمونت باومان (Zygmunt Bauman) كانت حاضرةً، وهو مُنظّر سلسلة "المفاهيم السائلة"، حيث يرى سيباستيان بروكا أنّ أخلاقيات عمالقة التكنولوجيا تبقى سائلةً وميزتها أنّها تتأقلم مع روح العصر، كما تُلخّص ذلك الفقرة التالية: "من غير المعقول أن نعلن التزامنا بحرية التعبير من دون محاربة الواقع الذي يفرض أنّ ممارسة هذا الحقّ أصبحت الآن مُنَظّمَةً من قبل المطالب الاقتصادية للشركات التكنولوجية الكبرى. لقد فشل المدافعون عن الحريات، بسبب فهمهم المتأخر بعض الشيء، في تحقيق الوعود التي تنبّأ بها يوتوبيا الإنترنت".
عمل نوعي ومساهمة رصينة في سياق الكشف عن الوجه الآخر ليوتوبيات الثورة الرقمية المفتوحة على المجهول.
(خاص "عروبة 22")