سبق زلزال مراكش وكارثة درنة، زلزال تركيا وسوريا حيث تركّزت الجهود ليس لإنقاذ المتضرّرين وإجلائهم وإغاثتهم فحسب، بل لإعادة فتح العلاقات السياسية المقطوعة بين حكومتي سوريا وتركيا وبين خصومهما المعلنين مثل مصر واليونان ودول خليجية، من دون فتحها بين دمشق وأنقره. لكنّ هذا الانفتاح في العلاقات السياسية لم يكن بمستوى التطلّعات العربية تجاه المغرب والجزائر التي شهدت بعض الحرائق. أمّا في ليبيا فثمّة رواية بحجم المُصيبة التي أصابت مدن الجبل الأخضر وخصوصًا درنة.
الفارق بين زلزال مراكش وكارثة درنة، أنّ للمغرب منظومة وبنى تحتية تمكّنه من إدارة ملفّ الزلزال بمنطق الدولة المسؤولة في وحدة القرار والتنفيذ، بالتنسيق مع المؤسّسات الأهلية، الأمر الذي يحدّ من الارتباك نسبيًا، ويُسهم في سرعة الإنجاز وتقليل الخسائر البشرية والمادية.
تواطؤ عوامل الطبيعة مع الفساد والإهمال البشري في عدم صيانة سدّي درنة
في ليبيا، الدولة منقسمة، وتحكمها الإزدواجيات الأمنية والإدارية، والرثاثة السياسية، ويتسيّدها الفساد بعيدًا عن الكفاءة في هياكلها. الأمر الذي انعكس تخبّطًا في مقاربة الكارثة، وفشلًا في تقدير الموقف، وتضاربًا في الصلاحيات، مصحوبًا بمزايدات إعلامية بين أطراف المنظومة التي تقاذفت "حكومتاها" المسؤوليات. في حين رمى رئيس البرلمان عقيلة صالح بالمسؤولية على الطبيعة والقضاء والقدر.
رغم مرور أسبوع على طوفان درنة، فقد كشفت الفيديوهات المتطايرة عن تسونامي يجرف الحقول والبيوت والأتربة الطينية محوّلًا المدينة وبحرها "مقبرة جماعية" للجثث. وكشفت عن هول المصيبة التي يجزم بعض مهندسي وجيولوجيي ليبيا بوقوع أخطاء بشرية كان يمكن تفاديها، وليس بقوة قدريّة لا يمكن اعتراضها.. فهي ناجمة عن تواطؤ عوامل الطبيعة مع الفساد والإهمال البشري في عدم صيانة سدّي درنة. وعدم حصول الخطأ البشري في اليونان، منع الكارثة الإنسانية بسبب الإجلاء الإستباقي للسكان.
سلطات شرقي ليبيا تعاملت مع "إعصار دانيال" كمجرم سيضرب بنغازي، فطالبت الناس بالتزام منازلهم، لتتفاجأ بأنّه ضرب سدّي درنة. تمامًا كما ضربت حكومتا الإنقسام أرضًا بالدراسات العلمية وتحذيرات الخبراء والفنيين حيال مخاطر محقّقة ستؤدي لانهيارهما جرّاء الفساد والإهمال، خصوصًا من وزارة الموارد المائية، التي لم تلتقط إشارة غرق شوارع بمدينة "اجدابيا" شرقي ليبيا، نتيجة إنفجار أنبوب مياه النهر الصناعي العظيم منذ شهرين.
بعد انهيار سدّي درنة، باتت صيانة السدود وحمايتها من أولويات الأمن القومي الاستراتيجي. وبديهي أن يُدخل هذا الإنهيار، سدود المنطقة ضمن استهدافات الحروب المقبلة. تمامًا كتبادل قصف السدود بين روسيا وأوكرانيا ومنها "سدّ كاخوفكا". واليوم تتصاعد التقارير حول احتمال انهيار سدّ الموصل والتداعيات الخطيرة التي سيخلّفها، وأيضًا حول سدّ أتاتورك. فماذا لو انهار أو قُصف سدّ تشرين أو سدّ القرعون، فضلًا عن سدّ النهضة الذي يستهدف مصر أولًا وأخيرًا، أمّا السودان فقد تكفّلت الحرب بتعطيل دوره إلى حين.
لن نخوض في أعداد ضحايا طوفان درنة لتضاربها ليبيًا مع الأمم المتحدة، ولا في التلّوث البيئي الذي انتشر جرّاء تحلّل الجثث والحيوانات النافقة، ونرتقب إعلانها من جهة معنية تحسم الأمر بمسؤولية، كما صرّح النائب العام الليبي الصدّيق الصور، الذي شكّل فريقًا تحقيقيًا لتحديد أسباب ونتائج انهيار السدّين، (اللذين أُنشئا عام 1978 بهدف حماية المدينة من الطوفان وليس لحبس الأمطار)، وصولًا لتحديد المسؤوليات الجنائية والقانونية. وهذا الكلام قوبل بارتياح البعض، وتشكيك بعض آخر يطالب بتحقيق دولي لعدم ثقته باقتدار الصدّيق الصور على إنجاز التحقيق، ما يضع على عاتقه بوصفه نائبًا عامًّا معيّنًا من عموم البرلمان وليس من رئيسه فقط، مسؤولية مضاعفة تحتّم عليه عدم محاباة المتنفّذين في البرلمان وقيادات الجيش والميليشيات والحكومات المتوازية والمتعاقبة، وسوق المتهمين بالتقصير والفساد إلى المحاكمة.
رغم وصول الإعصار الى الإسكندرية بعد درنه، فقد كانت مصر سريعة الاستجابة، ويبدو أنّ الجيش المصري نفّذ بإشراف ميداني من رئيس الأركان المصرية أسامه عسكر أكبر تمرين تعبوي غير مسبوق في المنطقة للإنقاذ وإلإغاثة برًا وبحرًا وجوًا.
كما سيّرت الإمارات جسرًا جويًا متواصًلا، وكذلك فعلت الجزائر بحرًا وجوًا، وأيضًا السعودية وتركيا وتونس والكويت وقطر وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا وبنغلادش وإيران. أمّا روسيا فأطلقت جسرًا جويًا، وأنشأت مشفًى ميدانيًا معزّزًا بطواقم إنقاذ. وأوفدت نائب وزير الدفاع يونس يفكيروف إلى بنغازي ودرنة حيث أكد للمشير حفتر دعم روسيا للمناطق المتضررة جرّاء الكارثة.
هذا الموزاييك من المساعدات الخارجية، يعكس لحدٍ كبير حجم نفوذ القوى الإقليمية والدولية المتدخّلة والمتداخلة في ليبيا. وسبق تقاطر المساعدات الخارجية، هبّة شعبية ليبية، انطلقت من غربي ليبيا وجنوبها المهمّش والفقير إلى شرقي ليبيا. فقد هبّ أبناء طرابلس والزاوية ومصراتة وترهونة والعجيلات والزنتان وغريان والخمس وزليتن والقربوللي وقصر بن غشير والأصابعة وبني وليد وورشفانة وصبراتة وصرمان فضلًا عن سبها. هبّ كل هؤلاء بما يملكون وسيّروا قوافل الدعم والإغاثة إلى درنة ومدن الجبل الأخضر المنكوبة، ومعهم سيارات الإسعاف والطواقم الطبية والإنقاذية والجرّافات ومولّدات الكهرباء ومعدّات شفط المياه وغيرها، وذلك بمبادرات شعبية وقبلية ونقابات وجمعيات أهلية اندفعت بوازع النخوة والغيرة والضمير الوطني، وتبعتها جهات حكومية.
"فزعة" الليبيين من الشرق والغرب، فرضت نفسها على الأطراف المتقاتلة
والحقيقة أنّ "فزعة" الليبيين ومداواتهم لجراحات بعضهم، ملأت فراغًا إنسانيًا وعاطفيًا كبيرًا، وجبرت قلوبًا وخواطر منكسرة، حتى يمكن للمرء الإقرار بأنّ ليبيا تحوّلت إلى مجلس عزاء واحد، الكلّ فيه مصاب، والكلّ فيه يتقبّل التعازي.
"فزعة" الليبيين، وبحسب الأصوات والمبادرات المنطلقة من الشرق والغرب الليبي، فرضت نفسها على الأطراف المتقاتلة التي وجدت نفسها منساقة لاإراديًا وسط هذا الجرف العاطفي الكبير. فاللواء 444 من طرابلس، واللواء 166 من مصراتة توجّها الى بنغازي عدوّتهما بالأمس، للمساعدة في معالجة جراح درنة، وضمنًا جراحهم العميقة نتيجة حروبهم البينية المعلومة، وبدا المتقاتلون بالأمس كمن يلقي سلاح التقاتل ويشهر سواعد الوحدة والأخوّة بين أبناء الوطن الواحد.
شيء من المعجزة أحدثه طوفان درنة، التي تمتاز تاريخيًا بحيثية سياسية، ومكانة دينية وعلمية وثقافية، وذلك بالنظر لاحتضانها رفاة نحو 11 من صحابة رسول الله، فسُمّيت "مدينة الصحابة". وباعتبارها من أبرز معاقل قائد الجهاد الليبي ضد الاستعمار الإيطالي عمر المختار الذي يحيي الليبيون والعرب هذه الأيام ذكرى استشهاده الـ92.
وبالنظر لهاتين المكانة والحيثية، فلطالما لاذت بدرنة حركات جهادية ودينية متطرّفة، ونفّذ عناصرها بعض التفجيرات منتصف التسعينات ما دفع الطيران الليبي لقصفهم داخل بعض مغاور الجبال. والأمر نفسه فعله المشير حفتر عام 2015 فقصف بالطيران بعض الأحياء للقضاء على "داعش" في المدينة التي تثير هواجس كل من يجلس على كرسي طرابلس.
"حجر الأساس" في ليبيا الجديدة هتافات أهالي درنة: "لا شرقية لا غربية ليبيا وحدة وطنية"
كارثة درنة، ثبّتت فشل الجيش الليبي والميليشيات، في التصدّي الاستباقي للكوارث الطبيعية والبشرية. وأكدت أنّ الجيش الحقيقي الذي تحتاجه ليبيا، هو "جيش الحماية المدنيّة" المدرّب والمتخصّص والمجهّز بمعدات تكنولوجية متطوّرة لرصد ومواجهة الأعاصير والزلازل والكوارث، والمعزّز بمشافي ميدانية متنقلة ومروحيات وسفن طبيّة لضمان سرعة الاستجابة وإجلاء المحاصرين والمصابين والضحايا.
وإذا كان العرب لم ينجحوا في تشكيل "قوّة عربية مشتركة"، فحريّ بهم، سرعة المبادرة لتأسيس "جيش الحماية المدنية العربية" كقوّة تدخل سريع لمواجهة الكوارث الطبيعية والبشرية.
كارثة درنة، التي كشفت أنّ دول الناتو عمّقت الإنقسام السياسي، وغذّت الإقتتال بين حلفائها من الليبيين وفخّخت لهم دولة ما بعد 2011، وأمسكت بمفاتيحها، وإدارتها من الخارج أو عبر سفرائها، كشفت أيضًا، أنّ "الفزعة" هي سلاح الليبيين الاستراتيجي، القادر عند تفعيله على مداواة جراحهم، وإطاحة كل الترتيبات والتركيبات الأجنبية، وإفشالها في السيطرة على ليبيا ونهب مقدراتها. والأهمّ، الشروع في بناء ليبيا الجديدة.. و"حجر الأساس" فيها الهتافات المدوية (لا شرقية لا غربية ليبيا وحدة وطنية) التي أطلقها حشود أهالي درنة من أمام "مسجد الصحابة" مردّدين: الشعب يريد إسقاط البرلمان.
إذن، "الفزعة" سلاح الشعب العربي الليبي، الذي يشهره في الشدّة واللحظات الفارقة. وقد شهره منذ أسابيع عندما فزع دعمًا لفلسطين، ورفضًا للقاء وزيرة الخارجية المُقالة نجلاء المنقوش بنظيرها الإسرائيلي، ولم تزل انتكاسة التطبيع الليبي ماثلة للعيان، وترخي بتداعياتها المتناسلة على كل طاولات التطبيع السياسي منه والإقتصادي والثقافي.
(خاص "عروبة 22")