مِن أكبر المشكلات التي تواجهنا نحن العرب في هذا الزمن، هي "المشكلة الثقافية"، والتي نحن على غير وعيٍ كافٍ بها!... وبخاصةٍ أنّنا دخلنا عصر الآلات الذكية، وأصبحت نماذجُ اللغة الكبيرة (Large Language Models - LLMs)، تنتشر بيننا في مجالاتٍ عديدة، فنستخدمها في التعليم والبحث العلمي والتدريب، والخدمات الصحية والمصرفية والسياحية... والتجارة، والإدارة، والحوْكمة، والإعلام، والفنون، والآداب... إلخ. فهل يمكن لنا الاعتمادُ حقًّا على هذه التكنولوجيا الذكية في بناءِ ثقافةٍ عربيةٍ أصيلة، والحفاظِ على موروثنا الثقافي، وتجديد وجودنا الحضاريّ المنشود، ونحن نعيش في زمنٍ يسيطرُ فيه العقلُ الآليّ، لو جازَ القول، على كلِّ حركاته وسكناته، تقريبًا!.
الذكاء الاصطناعيّ واسطةٌ في الطريق العبرةُ فيها لمن يُنتجها ويُحسن استخدامها
إنَّ الذكاء الاصطناعيّ لا يمكن أن يُنتجَ لنا ثقافة، لأنه لا يُنتج المعرفة أصلًا... ولا يمكنُ أن يؤسِّسَ لنا هويّة، لأنه بلا "هويّة إنسانية"، وفاقدُ الشيءِ لا يُعطيه. كذلك، لا يمكنه أن يُجدِّد لنا حضارة؛ لأنّ الحضارة ذاتٌ، وهو بلا ذاتٍ، ولا وعيٍ، ولا جوهرِ وجود... لكنَّ هذا الكائنَ الآليّ، هو مساعدٌ مهمٌّ جدًّا في حياتنا المعاصرة... إنّه، بلا شك، يساهمُ في الوصول إلى المعرفة والثقافة، ويُعينُ فعلًا على بناء الحضارة... غير أنّه غيرُ مسؤولٍ عن قيمةِ ما يُنتجه، ومدى صحّتهِ من عدمهِ، أو مدى نجاحه وإخفاقه!... إنّما المسؤول الحقيقيّ هو الإنسان نفسُه... نحن الذين نُقيّمُ، ونختارُ، ونُقرِّرُ، ونتحقّقُ من الخطأِ أو الصواب، ومن النفيِ أو الإثبات.
الذكاء الاصطناعيّ واسطةٌ في الطريق. وسائلُ متنوّعةٌ وخطيرةٌ من وسائل التقدّم، والعبرةُ فيها لمن يُنتجها ويُحسنُ استخدامَها، ويعي جيِّدَها من رديئِها. وكما أشرنا في أكثر من مقال سابق، يمتلكُ الذكاءُ المُبَرمَجُ خصائصه التي لا ينافسه فيها الذكاءُ الطبيعيُّ؛ مثل قوّة المُعالجة، وسرعة التنفيذ والتوليد والتوقّع والتنبّؤ، وسعة الحفظ، ودقّة الاسترجاع. والنتيجة، هي من حُكْمِ الإنسانِ وحدهِ، الإنسانِ الواعي صاحبِ السيادة القيمية، والأخلاقية، والحكمة الحضارية... هنا، يتصدّرُ سؤالٌ أساسيٌّ في هذا الصدد: كيف يمكنُ للذكاء الاصطناعيّ أن يخدمَ ثقافتنا العربية؟... أي كيف يُمثّلها؟ ويُحافظ عليها؟ ويُعزِّزها؟ ويجعلها مُكوِّنًا أساسيًّا من مكوّنات الثقافة الإنسانية المتطوّرة؟ ولعلَّ هذا السؤالَ يأتي بأسئلةٍ أخرى، عن تحيّزِ الثقافة، وتغييبِ أو تضليلِ المعلومةِ والمعرفة، أو ضلالِ الحكمةِ وتيه الحضارة؟ كيف قد يحدثُ كلُّ هذا، من خلال مُخرجات الذكاءِ الاصطناعيِّ وخدماتِهِ المُيَسَّرَة، المُمْتِعة؟!.
خطأ الذكاء الاصطناعي المحتمل هو خطأ الإنسان الذي يُقدِّم له البيانات من عدمها
تعتمد نماذج اللغة الكبيرة على خوارزمياتٍ معقّدة، مثل خوارزمية المحوِّل (Transformer)، لفهم اللغة البشرية بدقّة، والتعلّم، فيما يُعرف بتعلّم الآلة (Machine Learning)؛ فتتدرّب أثناء عملية تدريبها على كمّيات هائلة من البيانات المكتوبة وغيرها، من مصادر متنوعة - خصوصًا النماذج المتعدّدة الوسائط (multimodal models) - تشمل: الكُتُب، والسجلات، والوثائق، والدوريات، والصور، والأصوات، والفيديوات، والموسوعات، والحوارات، وما يؤخذ من المواقع والصفحات والمنصات والتطبيقات الرقمية... لا يمكن لأي نموذج لغة، أن يخرجَ عن محيط البيانات التي يتعلّم منها الأنماط، والقواعد، التي يستخدمها في تقديم خدماته المتنوّعة، ويعتمد عليها في عرضه للمعلومات والمعارف، أو تنظيمها وتحليلها واقتراحها وتقديمها حسب الطلب. لذا، فخطأ الذكاء الاصطناعي المحتمل، هو خطأ الإنسان الذي يُقدِّم له البيانات من عدمها، فتبرز مشكلات البيانات للأنظمة الذكية؛ سواء في نقصها أو غيابها أو ضعف جودتها، أو في فجواتها، أو غموضها أو عدم صحتها...
وربّما تكون أخطاءُ الأنظمة الذكية ناجمةً عن قيودها الخوارزمية في حدِّ ذاتها، أو تحدياتِ البيئة التقنية التي تعمل وفقَها، فتظهرُ نقاطُ ضعفِها مثلًا: في عدم التقاطها الأنماط الأساسيّة لسياق البيانات، أو في نقص تكيّفها مع بيئة التدريب. وربما يُعزى الأمر إلى حصول الذكاء الاصطناعي على مدخلات ملتبسة، أو معقّدة بالنسبة لقدراته، وربما تتجاوز حدود الممكن. وأحيانًا يحدث ما يُعرف بـ"الإفراط في التكيّف مع البيانات" (overfitting)، فيتعلّم النموذجُ أكثرَ ممّا يجب من تفاصيلَ دقيقةٍ خاصّةٍ ببيانات معيّنة، فيُسيءُ استخدامَها على بياناتٍ أخرى جديدةٍ بالنسبة له، ممّا يحدُّ من قدرة النموذج على التعميم، لأنه لم يتعلّم ما يجبُ تعلُّمه من أنماطٍ عامةٍ وقواعدَ أساسيةٍ يمكن تطبيقها على مستجدّات البيانات التي لم يتدرّب عليها...
ماذا أعددنا لوقاية ثقافتنا من التخلّف عن ركب الحضارة الذكية؟
لعلَّ الآن، يتبيّن حجمُ المسؤولية المُلقاة علينا تجاه ثقافتِنا، قديمِها وحديثِها، في مقابل استخدامنا للذّكاء الاصطناعي! إنّها مسؤوليةٌ شاملةٌ، علمية وتقنية ولغوية وفكرية واجتماعية واقتصادية... وبالدرجةِ الأولى مسؤوليةٌ أَمنيّةٌ وسياسية... فهل لدينا استراتيجيات حماية حقيقيّة لثقافتنا، حاضرها ومستقبلها؟ ماذا أعددنا لوقاية هذه الثقافة من التخلّف عن ركب الحضارة الذكية؟ خصوصًا في رقمنتها المُنَظّمة، وتحسين جودة بياناتها، وتعزيز وجودها السليم في بيئات تدريب الخوارزميات؟ وضمان صحتها، بتنقيتها ممّا يشوبها من مساوئ وأخطاء! هل نقوم فعلًا بمراجعتها وتقييمها وتقديمها للعالم في أبهى حللها التي تستحقّها؟ هذه بعض أسئلة البقاء، والوجود الحضاريّ للعرب.
(خاص "عروبة 22")