وجهات نظر

لماذا فشل العرب في إدارة تنوّعهم؟

منذ "سايكس بيكو" الأوروبية وحتى هندسة المحاصصة الأمريكية في العراق عام ٢٠٠٣، لم يفلح العرب في إيقاف مشروع تقسيمهم من جانب الأغيار. أحدث الإخفاقات يجري حاليًا في السودان المرشّح للتقسيم بمتوالية متسارعة، الأوضاع في كل من ليبيا واليمن ليست أفضل بكثير، فليبيا عمليًا مقسّمة لجناحين انكشف عدم جدراتهما بالكلية مع مأساة درنة، كما أنّ اليمن مرشّح لدولتين بين شمال وجنوب.

لماذا فشل العرب في إدارة تنوّعهم؟

السؤال هو كيف وصل العرب إلى هذه الحالة؟ وهل يمكن الخروج منها لإعادة لحمة النظام العربي على أُسس قومية شاملة تأخذ بعين الإعتبار التناقضات الثانوية المحتملة، وأيضًا تواجه المخططات المستمرة من جانب أصحاب المصالح العالمية؟

بدايةً، لا بدّ أن نرصد أنّ التنوّع العربي، الذي هو مماثل لغيره حول العالم ويعد من نواميس البشرية، قد تمّ توظيفه واستخدامه على نحو ممنهج لتلبية إحتياجات قوي دولية على الصعيد الاقتصادي والجيوسياسي، بينما تمّ تحقيق خسائر هائلة للعرب على جميع الصعد تنعكس حاليًا في حروب وصراعات داخلية وتقسيم جديد محتمل على شاكلة "سايكس بيكو"، ولكن بعناوين وأساليب أكثر حداثة.

الآليات العالمية لاستثمار التنوّع العربي لغير صالحهم ارتكنت أولًا إلى الاهتمام بالأقلّيات غير العربية على الأراضي العربية.

الخطاب الوحدوي لم يأخذ بعين الإعتبار فكرة ثراء التنوّع في إطار الوحدة

ويمكن القول إنّ الدور الإسرائيلي رائد في هذه المسألة، حيث تمّ إستثمار تحديد فلسطين كأرض لجمع شتاتهم منذ "وعد بلفور" في دراسة البيئة المحتملة لإنشاء دولتهم على نحو دقيق، وفي هذا السياق تمّ اعتبار الأقليات غير العربية آلية مناسبة لإضعاف العرب، فدشّنت معهد ديان في تل أبيب لدراسة الأقليات العربية لبحث كيفية بلورة خطاب تحريضي ضدّ العرب في أوساطهم، وهو ما تطلّب وجودًا ميدانيًا بأساليب متنوّعة في أوساط هذه الأقليات أغلبها ثقافي.

وللأسف ساهم الموقف العربي السلبي من هذه الأقليات، خصوصًا على وقت صعود القومية العربية دورًا كبيرًا، في خلق الفجوة بين العرب وبين غير العرب على الأراضي العربية، حيث تمّ بلورة خطاب وحدوي لم يأخذ بعين الإعتبار فكرة ثراء التنوّع في إطار الوحدة.

التطبيق العملي للمخططات الإسرائيلية تمّ تطبيقه في جنوب السودان أولًا فتمّ دعم الحركات الإنفصالية منذ خمسينيات القرن الماضي حتى تمّ الوصول إلى استقلال جنوب السودان عام ٢٠١١.

عل صعيد مواز يمكن اعتبار أنّ هندسة مناهج المحاصصة الأمريكية في العراق عام ٢٠٠٣، وفي اتفاقية نيفاشا بالسودان عام ٢٠٠٥، قد امتلكت خارطة الطريق الإسرائيلية في توظيف التنوّع الذي كان طائفيًا في العراق وعرقيًا في السودان.

ودائمًا ما يكون المعلن في هذه المناهج هو عدالة تقسيم الثروة والسلطة، بينما يكون المضمر دائمًا هو نفي خيار التشبيك والتنسيق بين العرب لصيانة مصالحهم الأساسية والتي من خلالها يستطيعون بلورة نظام عربي متماسك يمكن أن يكون وازنًا لحماية المقدرات خصوصًا تلك المتعلقة بالموارد الاقتصادية والمصالح الجيوسياسية.

لا بدّ من حلّ معضلة تداول السلطة بحيث يتمّ ضمان سلمية العملية وديمقراطية نُظُم الحكم

في ضوء هذه الأوضاع، يبدو لنا أنّ مناهج التعامل الصحيح من جانب العرب مع تنوّعهم سواء العرقي أو الطائفي أو الديني، هو المفتاح والمدخل الحقيقي لضمان استمرار الأمّة من ناحية، وحماية مصالحها من ناحية أخرى في مراحل باتت بالغة الدقة وحافلة بالتحديات المرتبطة بالفاعلية الإسرائيلية والغربية بشكل عام في التلاعب بمصالح العرب، وتحقيق أهداف تقسيمهم وتغذية صراعاتهم بهدف نهائي هو الحصول على مواردهم المتنوّعة سواء تلك الاقتصادية أو حتى كوادرهم البشرية التي باتت بمثابة شريان حياة جديد لمجتمعات أوروبية تركيبتها الديمغرافية لم تعد شابة، ولا تبدو قادرة على تحمّل متطلّبات الإنتاج المطلوب.

الشاهد يبدو لنا أنّ التعامل الإيجابي مع التنوّع العربي هو أهم المداخل للحفاظ على أقطار العرب والعروبة معًا، فلا مناص من حكم رشيد يتمّ تمثيل الجميع فيه على نحو متساوٍ في كل الهياكل السياسية، سواء تلك التنفيذية أو المنتخبة دون اعتبار لعرق أو طائفة أو دين أو ثقافة، كما أنه لا بدّ من حلّ معضلة تداول السلطة بحيث يتمّ ضمان سلمية العملية، وديمقراطية نُظُم الحكم. كما يبدو لنا، أنّ تصحيح العلاقات المدنية العسكرية في المنطقة العربية مسألة يجب الحوار بشأنها، وتأسيس مقاربات جديدة لها في ضوء النظريات الحديثة المتداولة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وذلك مع تداعيات كلّ من حرب العراق وأفغانستان على الفكر العسكري الغربي في هذه المرحلة.

أما على المستوي العربي فربما يكون النموذج السوداني هو الشاهد أنّ الخلل في هذه العلاقات قد يفضي ضمن عوامل أخرى إلى الحرب الأهلية التي نشهدها حاليًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن