وجهات نظر

القومية العربية وهاجس "الوصاية السياسية"

معلوم أنّ نكبة فلسطين وانهزام العرب أمام اسرائيل شكّلا بدايةً لتشكّل الوعي الثوري بصيغته العسكرية (نموذج "الضباط الأحرار")، وهو الوعي الذي خدمته بشكل ما قضية الأسلحة الفاسدة والتي أُرجع لها سبب انهزام العرب في حرب يوليو، إذ سرعان ما انتشر هذا الوعي بباقي الدول العربية، الأمر الذي ساهم فيما بعد في إفراز نوع من التوظيف السياسي لمفهوم القومية العربية، وهو توظيف نسمّيه تجاوزًا "وصاية سياسية" ذات طبيعة قومية، فقد مَثلَ هذا الحافز هاجسًا لتحقيق امتداد أو تكرار للتجارب الثورية في بعض الدول العربية، مما جعل مفهوم القومية بوابة لتمرير العدوى السياسية في الإطاحة بما وجد والتأسيس من البداية، فكيف تمّ ذلك؟

القومية العربية وهاجس

بالعودة إلى هذه التجربة السياسية، نجد أنّ الأفق الانتظاري لمفهوم القومية العربية آنذاك قد حُدّد انطلاقًا من إطارين: تحقيق التحرّر الشامل لكلّ الدول العربية، مع أنّ التحرّر لم يكن مطلبًا إزاء المستعمر المخالف فقط بل من الأنظمة السياسية السابقة أيضًا؛ ثم بلورة وحدة عربية، هذه الوحدة التي طُبعت بتوجّه أحادي دوغمائي داخليًا وقوميًا.

نمط السلطة السياسية شأن داخلي بمباركة خارجية أما الشأن القومي فهو اتفاقي خارجي بتحفيز وطني داخلي

كان معنى الوحدة يروم تحقيق الامتداد السياسي، أو قُل خلق تمركز يُؤسّس لرؤية وحدوية تسري في باقي بقاع الجغرافيا العربية، حيث إنّ الشعور بالانتماء لمشترك ثقافي أوجد أرضية خصبة لنمو مطلب "الوصاية" على هذا الكلّ العربي، وهي "الوصاية" التي تكفّلت البنية العسكرية، في صورتها الثورية، بتغديتها بدعوى الحسّ العربي، مما عرقل تفعيل مشروع القومية العربية، لأنه لم يعكس مشروعًا قائم الذات، بقدر ما كان مشروع وصاية سياسية على الكلّ العربي.

بهذا نكون هنا أمام مطلبين وجب أن يؤسِّسا بشكل ما سُبُل تعاطينا مع مشروع القومية العربية: الشأن الوطني والشأن القومي، الأوّل يخصّ طبيعة السلطة السياسية لكلّ دولة عربية، فنمط السلطة السياسية لأيّ دولة هو شأن داخلي بمباركة خارجية؛ أما الثاني فهو شأن اتفاقي خارجي بمباركة وتحفيز وطني داخلي.

طبيعة السلطة السياسية لأي دولة عربية هو شأن وطني/ داخلي وليس هَمًا أو مشتركًا أو مشروعًا أو أفقًا قوميًا يُبرّر الامتداد السياسي داخل البنية الداخلية لدول على أساس الحسّ القومي العربي، هذا التمييز يثير معطى بالغًا في الأهمية، لأنّ هذا الامتداد الخارجي داخل الشأن الوطني مثّل مجالًا خصبًا لتوظيف الحسّ القومي على شكل أجندات وإيديولوجيات مختلفة لم تخدم يومًا الأفق القومي.

ثم إنّ هذا الخلط بين مسار الوطنية والقومية ساهم بشكل كبير في تعطيل، أو ما يُشبه تجميد، المشروع القومي الذي صار أقرب إلى "وصاية سياسية" منها إلى مشروع قومي يُمثّل جهودًا اقتصادية وسياسية وثقافية تسعى لتحقيق نهضة عربية فعلية بناءً على الفصل البائن ما بين المشروع القومي المترجم للأفق الانتظاري للمشترك العربي، والشأن السياسي الداخلي الوطني الخاص بأيّ دولة عربية.

مفهوم القومية يجب أن يسائل فعالية المشترك النهضوي الذي يجمع الكلّ العربي

ما نسجّله بهذا الباب نلخّصه في النقاط التالية:

ــ لم يتعامل المشروع القومي في التجربة الثورية المابعد تحرّرية مع القومية العربية كمشروع نفعي قد يساهم بقدر ما في بلورة قوة إقليمية، بل تمَّ رصد مقوّمات الحسّ القومي المؤسَّس على المشترك العربي لخدمة هاجس الوصاية السياسية على هذا الكلّ الجغرافي، ورصد كل الإمكانات لحذف أي اختلاف في طبيعة السلط السياسية لباقي الدول عبرَ تصدير التجربة السياسية وتغدية النعرات الثورية فيها، ممّا أنتج صراعًا خفيًا عَطّل كلّ الجهود لتحقيق المشروع القومي المأمول، كما جعل القومية المابعد التجربة التحررية قومية ثورية بأفق لا ثوري خارج ثورتها المعلنة.

ــ لا تحيل القومية على مفهوم الأمة العربية في صيغتها السياسية بما هي دولة واحدة، بل القومية ترادف الحسّ الانتمائي العام الذي تنضوي تحته عدّة أشكال من الاختلاف والتعدّد في الأنظمة السياسية، التي تمثّلها كلّ دولة عربية.

ــ يجب أن يُسائل مفهوم القومية العربية فعالية المشترك النهضوي الذي يجمع الكلّ العربي، لاعتبارات عدّة أقلّها أنّ الامتداد يجب ألّا يكون في طبيعة السلطة السياسية، بل في الآفاق الانتظارية والمشاريع النهضوية التي تحدّد المصير العربي حاضرًا ومستقبلًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن