مع مطلع القرن 19 وحتى القرن 20 ستدخل المجتمعات العربية الزمن الحديث عبر صدمة الاستعمار والحداثة، إذ سيعني مفهوم الحداثة بالنسبة لها "أيدولوجيا كونية للتغيير الشامل"، أو بمعنى آخر ذلك النمط الحضاري أو تلك الوصفة الحضارية الكونية التي اكتسحت كل الحضارات غير الأوروبية، حيث "أخلى دعاة تحديث الإسلام السبيل لدعاة الإصلاح الراديكالي على النهج الغربي.. ولم يكن من قبيل المصادفة أنّ أيديولوجيات التحديث الغربية التي تبنّتها الطلائع المستنيرة، وفرضتها من أعلى، أصبح لها نفوذها في العالم الإسلامي" (هوبزباوم إيريك).
إثر ذلك انخرطت الدول العربية في مشاريع إصلاحية، لكنها فشلت أمام ثقل الموروث التاريخي والثقافي وكثرة الأزمات الداخلية المستفحلة، كما اعتُبِر تزايد الأطماع التوسّعية الرأسمالية عاملًا إضافيًا في استفحال هذه الأزمات وانفجارها الدرامي في نهاية الأمر.
تهاوت طروحات الإصلاح والنهضة والحداثة، وتجلّى عجز الدول العربية عن تحقيق حلم الديموقراطية
بعد أن اقتنع الرواد الأوائل بواقع الحال وباستعصاء النهضة في موجتها الأولى مع نهاية القرن 19، سلّموا المشعل للجيل الثاني من رواد الإصلاح قرابة النصف الثاني من القرن 20، خلال هذه الفترة كانت معظم البلدان العربية ترزح تحت نير الاستعمار، ولذلك آمن هذا الجيل بأنّ الإصلاح يبدأ أولًا بالتحرّر الوطني من الاستعمار الذي سيصحب لا محالة التغيّر الجذري لبنية المجتمعات والحكومات العربية، "إلّا أنّ هذه النهضة لم تكن سوى قفزة في الفراغ، وبقي حلم النهضة والديموقراطية الناجزة كما كان سلفه عصيًا على التحقّق" (كاظم نادر)، وذلك على الرغم من الاستقلال الشكلي الذي نالته كل الأقطار العربية باستثناء فلسطين، حيث تهاوت طروحات الإصلاح والنهضة والحداثة، وتجلّى واضحًا ضعف، بل عجز، الدول العربية عن تحقيق حلم الديموقراطية لشعوبها. وعلى النقيض من ذلك دخلت معظمها في السنوات التي تلت الاستقلال في أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، زاد من حدّتها ارتفاع الدين العمومي وتدخّل المؤسسات المانحة في توجيه السياسات العمومية، الأمر الذي عطّل ثورة الإصلاح والتحديث والديموقراطية مرّة ثانية.
في ظلّ هذا الوضع الحرج، وفقدان الأمل وغياب بوصلة المستقبل، فرضت الحاجة للمراجعة وممارسة النقد وتشخيص الأسباب الكامنة وراء هذا الوضع المزمن، وتدريجيًا تواترت الكتب والمؤتمرات واللقاءات لتشخيص أخطاء الماضي من أجل فهم الحاضر واستشراف المستقبل، وإن كان من خيط ناظم يمكن أن يجمع هذه المبادرات فسيكون هو سوداوية الرؤية التي اعترت مفكّري ورواد الموجة الثانية للإصلاح، والاعتراف بالفشل وفقدان الأمل في غد أفضل للشعوب العربية، لدرجة جعلت أحد المفكرين (فوزي منصور) يُعنوِن كتابه بـ"خروج العرب من التاريخ"، إذ يقرّ هذا الباحث بوجود "أزمة مستفحلة وأعطاب وشيكة وتفكّك كامل على الصعيد القومي".
وتواصل المسار الانتكاسي بالرغم من الموجة الثالثة من مسيرة الإصلاح خلال عقد التسعينات والتي آمن روادها بإمكانية تحوّل ديموقراطي سلمي، "عماده مجتمع مدني قوي ومتمكّن بمنظمّاته وهيئاته المدنية المستقلّة عن الدولة" (سعد الدين إبراهيم). مع بلوغ نهاية الألفية الثانية تمّ الإقرار بالفشل وغياب الأمل، فهذا "عابد الجابري" يجعل النقد عنوانًا لكتابه الصادر سنة 1996: "المشروع النهضوي العربي: مراجعة نقدية"، كما بلغت الأزمة مداها في العام 2000 مع "جورج طرابيشي" من خلال كتابه "من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة"، إضافة إلى لائحة طويلة من المرثيات والبكائيات، حيث بدا وكأنّ "العرب دخلوا عصر النهايات وموت الأيديولوجيات: نهاية الأمل، نهاية الوحدة، نهاية الإصلاح، نهاية الثورات ونهاية التقدّم والوجود العربي ككل الذي سار خارج التاريخ".
استيقظ الشباب الذين خرجوا في انتفاضات الربيع العربي على محدودية الفعل والإنجازات وما تحقّق من أهداف
بعد انقضاء ما يقارب قرنًا من الزمان في محاولة بلوغ ديموقراطية جذرية كما أسّس لها فلاسفة اليونان القديمة، ثم طوّرها بعد ذلك "هابرماس"، ووضع حد للفساد وتمكين الشعوب العربية من الحرية، كانت الحصيلة ضئيلة لا ترقى لتطلّعات الشعوب العربية، "فما كان من أوطاننا وطوائفنا وأحزابنا وملاعبنا إلا أن تحوّلت إلى معسكرات مغلقة أو ألغام تنتظر ساعة الانفجار" (صالح علي)، غير أنّ جيل الانترنت أو "جيل الموجة الرابعة للديموقراطية" (برهان غليون) سرعان ما صنع الحدث وتدافع من جيد نحو الشوارع والساحات من أجل الإبقاء على الأمل أن "يصنع العرب التاريخ" بدل أن يتدافعوا خارجه، لكن هذا الأمل سرعان ما بدأ بالتراجع فجأة مع انفلات الواقع من بين أيدي الشباب الذي خرجوا في انتفاضات الربيع العربي، واستيقظوا بعد مدّة وجيزة من الحدث على محدودية الفعل والإنجازات وما تحقّق من أهداف، فجيل الموجة الرابعة للديموقراطية سرعان ما تراجع وسقطت ثمار نضاله في غير يديه ( عبد الإله بلقزيز)، بحيث ناب الشباب عن الأحزاب في تدمير السلطة، ونابت الأحزاب عن الشباب في إقامة سلطة. وكانت النتيجة إما الانجرار إلى حالة الفوضى والحرب أو عودة النظام من جديد وإحكام قبضته أو المرور إلى إصلاحات شكلية يتمّ التراجع عنها يومًا بعد آخر.
والمستخلص لا تزال أطروحة فوزي منصور سارية: "أتيح للعرب خلال فترات متعددة من التاريخ شروط الانتقال من التخلّف إلى الرأسمالية باعتبارها مرحلة متقدّمة حضاريًا وهى (وحدة قومية، ملامح سوق مشتركة، تراكم رأسمالي) ومنذ القرن الهجري الأول كانت وفرة الخراج والفيء والجزية، وفي ذروة الدولة العباسية، وحتى بعد الوفرة البترولية لم ينجح العرب في ولادة الرأسمالية، كما لم تنجح الأنظمة الراديكالية في التنمية المعتمدة على الذات والاستقلال عن السوق الرأسمالي، فخرجت جميع البلدان العربية من التاريخ قديما وحديثا"، بل وما يقع فيه حاليًا من فوضى وفساد وتراجع حريات يؤكد أنّ العرب ابتعدوا كثيرًا عن حلم ربيع عربي وجيل ذهبي قادر على صناعة التاريخ وأحداثه.
(خاص "عروبة 22")