بين الجامعة والمصنع: لماذا يخسر العرب رهان التعليم المهني؟ (1/2)

يعاني التعليم المهني في العالم العربي من تهميشٍ مُزمنٍ، على الرَّغم من الحاجة الماسّة إليه في ظلّ بطالة شبابية مرتفعة وفجوة واسعة بين التعليم وسوق العمل. تغيب عن النّظام الرؤية الاستراتيجية، وتعوقه نظرة اجتماعية سلبية وضعف الشراكة مع القطاع الخاص. في المقابل، يقدّم "النظام المُزدوج" للتعليم المهني في ألمانيا نموذجًا ناجحًا بفضل دمج التدريب العملي بالتعليم النظري وشراكة الدولة مع السوق. هنا، تبرز الحاجة إلى مراجعةٍ عربيةٍ شاملةٍ، تتضمّن تعزيز التعاون الإقليمي، وتنسيق السياسات، وتطوير أطرٍ مشتركةٍ تُمكِّن من بناء منظومةٍ مهنيةٍ متكاملةٍ تعزّز التنمية وتواجه تحدّيات المستقبل.

بين الجامعة والمصنع: لماذا يخسر العرب رهان التعليم المهني؟ (1/2)

يشهد التعليم المهني والتقني في العالم العربي تهميشًا واضحًا ومستمرًّا منذ عقودٍ من الزمن، على الرَّغم من تزايد الحاجة إليه يومًا بعد يوم نتيجةً لتغيّرات السوق وتطوّر مُتطلّبات الاقتصادَيْن المحلي والعالمي. هذا التهميش لا يمكن اختزاله فقط في نقص التمويل أو البنية التحتية، بل يعكس أزمةً أعمق في الرؤية التربوية والمُجتمعيّة التي لا تزال تُعلِي من شأن التعليم الأكاديمي التقليدي وتعتبره المسار الوحيد للنجاح، في مقابل نظرةٍ دونيّةٍ تجاه التعليم المهني، الذي يُنظَر إليه في الأغلب بوصفه خيار الفاشلين دراسيًا أو مخرجًا اضطراريًا لمن لم يتمكّن من بلوغ التعليم الجامعي.

غياب السياسات المُتكاملة التي تدمج التعليم المهني ضمن رؤية اقتصادية شاملة

في الوقت نفسِه، تعاني المنطقة العربية من أعلى معدّلات البطالة بين الشباب على مستوى العالم (تُقدَّر البطالة الإجمالية في العالم العربي بحوالي 10-15 في المئة، والبطالة النسائية بحوالي 15-17 في المئة، والبطالة الشبابية بنحو 26 في المئة، بينما تصل بطالة الشابات إلى نحو 37-48 في المئة)، وتواجه فجوةً متزايدةً بين مُخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل. هذه الفجوة ليست ناتجةً فقط عن تدنّي جودة التعليم، بل أيضًا عن تجاهل المسارات التي توفّر المهارات العملية المطلوبة في الصناعات والخدمات. فالمؤسّسات التعليمية في أغلبيّة الدول العربية، على الرَّغم من تفاوت ظروفها الاقتصادية، تظلّ أسيرة النموذج الجامعي، حيث تُصرَف معظم الميزانيات على الجامعات، بينما تبقى مؤسّسات التعليم المهني على الهامش، ضعيفة الموارد، مُهملة التحديث، ولا تجذب الطلاب ولا المدرّسين المتميّزين.

هذا الواقع يفاقمه غياب السياسات المُتكاملة التي تدمج التعليم المهني من ضمن رؤية اقتصادية شاملة. في معظم البلدان العربية، لا توجد استراتيجية وطنية واضحة للنهوض بهذا النّوع من التعليم، ولا توجد شراكات مؤسّسية فاعلة تربط التعليم المهني بسوق العمل الفعلية. فالمؤسّسات المهنية إن وُجِدت، تكون في الأغلب معزولةً عن احتياجات الاقتصاد، وتعمل بمنطقٍ إداريّ تقليديّ، من دون أي تحديث منهجي للمناهج أو تنمية مهنية للكوادر. وفي حالاتٍ كثيرةٍ، نجد أن المدرّسين أنفسهم لم يتلقّوا تدريبًا مناسبًا، ولا يمتلكون سوى معرفة نظرية قديمة لا تصلح لإعداد جيل قادر على مواكبة الثورة الصناعية الرابعة أو الانتقال الرّقمي.

من جانبٍ آخر، يشكّل التصوّر المُجتمعي السائد نحو التعليم المهني عائقًا حقيقيًا أمام أي إصلاح جدّي. فالعائلات العربية عمومًا تدفع أبناءها إلى التعليم الجامعي، حتى لو لم تكن لديهم الكفاءة الأكاديميّة، اعتقادًا أنّ الشهادة الجامعية تفتح أبواب النجاح الاجتماعي والوظيفي. أمّا التعليم المهني، فكثيرًا ما يُختزَل في مهنٍ ذاتِ طابعٍ يدويّ أو تقنيّ محدودٍ، ويُربَط ضمنيًا بالفقر أو قلّة الحظ. هذه النظرة لا تشجّع الشباب على الالتحاق بمسارات قد تكون في الواقع أكثر انسجامًا مع ميولهم وقدراتهم، وتوفّر لهم فرص عمل أسرع وأكثر استقرارًا.

أكبر التحدّيات في التعليم المهني العربي يتمثّل في ضعف العلاقة مع القطاع الخاص

في ظلّ هذا المشهد، ظهرت محاولات إصلاحية في دولٍ مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة المغربية، حيث تُبذَل جهودٌ لتوسيع التعليم المهني وتحديثه وربطه بسياسات التنمية. وتعمل السعودية لتعزيز التعليم المهني عبر مبادراتٍ تندرج ضمن "رؤية 2030" وتهدف إلى مضاعفة مشاركة المتدرّبين في التعليم والتدريب التقنيّين والمهنيّين، وتشمل تأسيسًا وإعادة هيكلةٍ لمؤسّساتٍ مثل المؤسّسة العامة للتدريب التقني والمهني، وتطوير الشراكات الاستراتيجية مع القطاع الخاص، وتوسيع برامج التدريب المهني النّوعي وفتحها أمام النساء في تخصّصات جديدة. وفي الإمارات، تسعى الخطط الوطنية إلى تعزيز التعليم المهني، وربطه بسوق العمل المحلية، من خلال برامجَ لتأهيل المواطنين وتدريبهم في قطاعاتٍ مثل الطاقة والصناعة والتكنولوجيا. وفي المغرب، أطلقت الحكومة مشروعَ "مدن المهن والكفاءات"، الذي يهدف إلى تطوير بنيةٍ تحتيةٍ حديثةٍ للتعليم المهني، بالتعاون مع القطاع الخاص. وتترافق هذه المبادرات مع جهودٍ إصلاحيةٍ تستهدف الثقافة المُجتمعيّة والسياسات الحكومية.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ أحد أكبر التحدّيات في التعليم المهني العربي يتمثّل في ضعف العلاقة مع القطاع الخاص. فبينما يُفترَض أن يكون هذا القطاع شريكًا رئيسيًّا في تحديد المهارات المطلوبة وتوفير فرص التدريب العملي، يبقى في الأغلب بعيدًا عن التخطيط والتنفيذ، إمّا بسبب انعدام الثقة أو غياب الحوافز والتشريعات التي تنظّم الشراكة بينه وبين مؤسّسات التعليم. ومن دون هذه الشراكة، يبقى التعليم المهني أكاديميًّا في الشكل فقط، لا يوفّر للطلاب فرصة الاحتكاك بسوق العمل، ولا يزوّدهم بالخبرات الفعلية التي تُكسِبهم الجاهزية المهنية.

السوق لا تحتاج إلى المزيد من الأكاديميين بل إلى تقنيين وحرفيين يستطيعون العمل والإنتاج

في ظلّ هذا الواقع المأزوم، يُصبح من الضروري طرح تساؤلاتٍ جادّةٍ حول مستقبل التعليم المهني في العالم العربي، وإلى أي مدى يمكن إعادة بنائه على أسسٍ جديدةٍ تُراعي متغيّرات الاقتصاد العالمي وتستفيد من التجارب الدولية الناجحة.

لم يعدْ الاعتماد على النموذج الجامعي وحده كافيًا، بل أصبح جزءًا من المشكلة في ظلّ تفشّي البطالة بين خرّيجي الجامعات، وتكدّس الشهادات في سوقٍ لا تحتاج بالضرورة إلى المزيد من الأكاديميين، بل إلى تقنيين وحرفيين ومديرين ميدانيين يستطيعون العمل والإنتاج.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن