وجهات نظر

العرب... وغياب "القائد"

مرّت أمس الذكرى الثالثة والخمسون لرحيل الزعيم جمال عبد الناصر، وليست الكتابة عنه في هذه المناسبة لمجرّد إحياء ذكراه أو ذكر مناقبه، وإنما هي محاولة لاستخلاص دروس تجربة استطاعت فيها الأمّة العربية أن تحقّق إنجازات تاريخية، وبالذات في مجال التحرّر من الاستعمار، وبدرجة أقل في مجالات الوحدة العربية والعدل الاجتماعي، ورغم أنّ إنجاز التجربة في مجال الديمقراطية بالمعايير الليبرالية لا يُذكر، إلا أنه يمكن القول بأنّ التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية التي حقّقتها التجربة قد وضعت أسسًا كان البناء عليها ممكنًا للبدء في تحقيق تطوّر ديمقراطي حقيقي، وإن لم تمكّن انتكاسة التجربة والرحيل المبكر لزعيمها من إنجاز هذه الغاية.

العرب... وغياب

يكتسب استخلاص دروس تجربة عبد الناصر أهميّته من الظروف الراهنة المحيطة بالنظام العربي الذي يعاني تفسّخًا حقيقيًا وغيابًا للرؤية الموحّدة للتصدي لتحدياته، وقد وصل الأمر بالبعض في تقييم هذه الحالة المتردية إلى إسقاط فكرة وجود نظام عربي أصلًا، غير أنّ إمعان النظر في حال الأمة العربية بعد الحرب العالمية الثانية يكشف عن أوضاع أسوأ بكثير كانت سائدة آنذاك، ورغم أنّ تأسيس الجامعة العربية ١٩٤٥ نُظِر إليه في حينه كبارقة أمل، إلا أنّ ضعف بنيتها وهزيمة ١٩٤٨ أجهضا ذلك الأمل، ومن هنا تكمن أهمية ما فعله جمال عبد الناصر عربيًا.

لم يكن الإنجاز العربي لعبد الناصر حقيقة فردية، ولكنه بُني على معادلة جمعت بين إنجازات المفكّرين الذين آمنوا بالفكرة القومية العربية، والسياسيين الذين أسّسوا أحزابًا ومنابر قومية تسعى لتجسيد أهداف الأمة العربية، والجماهير التي آمنت بالفكرة وتحرّكت في سبيلها على قلب رجل واحد سواء في مواجهة الخطر الصهيوني أو الاستعماري بصفة عامة، وكان واضحًا من متابعة تصريحاته الأولى وتحرّكاته بعد الثورة أنه مؤمن بالفكرة العربية ودور مصر في المشروع العربي، كما ظهر بوضوح في كتيب "فلسفة الثورة" الذي صدر بين عامي ١٩٥٣ و ١٩٥٤، ثم أتبع القول بالفعل فكانت مصر في عهده سندًا لحركات التحرّر في الوطن العربي كافة. وحقّقت هذه الحركات إنجازات تاريخية في زمن قياسي، وبالذات في الجزائر وجنوب اليمن من الاستعمار الفرنسي والاحتلال البريطاني.

لم تخذله الجماهير وحقّقت له النصر في معارك لم يكن يستطيع النصر فيها بمفرده

على أنّ فهمه للتحرّر لم يقتصر على إجلاء قوات الاستعمار والاحتلال، وإنما امتدّ لتحرير إرادة القرار السياسي العربي، فكانت المعارك الناجحة لكسر احتكار السلاح ١٩٥٥، ورفض الهيمنة الغربية بتأميم شركة قناة السويس ١٩٥٦ من أجل قضية التنمية المستقلة، وإجهاض مشاريع الأحلاف الغربية كافة في الوطن العربي وفي القلب منها حلف بغداد ١٩٥٥، ومشروع أيزنهاور ١٩٥٧، وعندما تلاقت معه القوى العروبية الفاعلة في سوريا وُضعت النواة الأولى لأوّل وحدة عربية كاملة في التاريخ العربي المعاصر ١٩٥٨، ورغم تفكّك الوحدة بعد أقل من ٤ سنوات لأسباب داخلية وخارجية فإنّ دروسها ظلّت باقية، وإن لم يستفد أحد منها بعد.

كما أنّ عبد الناصر لجأ بعدها لآليات مؤتمرات القمّة التي نجحت حينًا ولم تنجح حينًا آخر، لكنها أثبتت قدرة الأمة العربية عندما تتوفر لها القيادة الكفؤة على التحرّك نحو هدف مشترك، وفي كلّ تحرّكاته آمن بالجماهير ووجّه خطابه لها، وكانت تستمع إليه في كافة أجزاء الوطن العربي، فبادلته إيمانًا بإيمان، ولم تخذله في أيّ موقف، وحقّقت له النصر في معارك لم يكن يستطيع النصر فيها بمفرده أو بالاعتماد على عوامل القوة المصرية وحدها، كما حدث في تحقيق العمّال العرب في كل ميناء عربي النصر له في معركة السفينة المصرية "كليوباترا" ١٩٦٠، وفي مساندته في جميع أرجاء الوطن العربي بعد تنحيه عقب هزيمة ١٩٦٧، وفي استقباله الأسطوري في الخرطوم بعد الهزيمة، وهو مثال فذ على معادلة القيادة التي يستحيل نجاحها دون سند جماهيري.

ما أحوجنا اليوم لقيادة تمتلك الرؤية والمشروع المتكامل وتدرك عوامل القوة العربية والقواسم المشتركة

وعندما تُوفي لم تبكِه الجماهير المصرية وحدها وإنما الجماهير العربية كافة، وأذكُر أني قرأتُ أنّ نساء عُمان قد خرجن للمرة الأولى في مسيرة لوداعه، وأرجو أن يصحّح لي الإخوة من عُمان، كما تأثّرت كثيرًا بما ورد في مقالة زاهر بن حارث المحروقي التي نشرتها جريدة عُمان في ٢٥ سبتمبر من أنّ العرب والمسلمين في القرية النائية التي كان يعيش فيها مع أسرته في تنزانيا قد أقاموا مجالس العزاء حزنًا على الرجل الذي رأوا فيه الأمل، فما أحوجنا اليوم لقيادة تمتلك الرؤية السليمة والمشروع العربي المتكامل، وتدرك عوامل القوة العربية والقواسم المشتركة بين الجماهير العربية والفهم العميق للبيئة الدولية وما تنطوي عليه من فرص ومخاطر، والإرادة الصلبة لمواجهة التحديات كافة من أجل ضمان المستقبل العربي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن