اقتصاد ومال

المهن اليدوية السورية: متوارثة عن الأجداد وتواجه "الانقراض"

باريس - مزن مرشد

المشاركة

من دمشق إلى حلب، حرف اشتهرت بها سوريا منذ مئات، بل آلاف السنين، باتت اليوم على شفى الانقراض.

المهن اليدوية السورية: متوارثة عن الأجداد وتواجه

منذ ما قبل الحرب التي عصفت في البلاد، كان سوق المهن اليدوية مقتصرًا على موسم السياحة، وفيما بعد الحرب، أصبح السوق قاحلًا تمامًا، فلا سياحة ولا سياح، ولا سوق محليًا لهذه المنتجات التي باتت منتجات فولكلورية لا يقتنيها من أهل البلد سوى قلة نادرة ولأغراض الديكور لا أكثر.

عُثر على أول نولٍ في التاريخ بدمشق، التي كانت على مدى السنين تنتج نحو مئة صنف من المنسوجات اليدوية مثل البروكار، والأغباني، والدامسكو، والديباج، والأللاجا.

فكان الدمشقيون السادة الحقيقيون لهذه الصناعة في التاريخ، أما اليوم فتوشك هذه المهنة على الانقراض، فلم يعد بإمكان أصحاب معامل النسيج اليدوي على استيراد الخيوط المناسبة لأقمشتهم، بالإضافة إلى شح اليد العاملة المؤهلة، وغلاء أجرها إن وجدت، ناهيك عن مشكلات الكهرباء والمحروقات ودمار البنى التحتية المناسبة للعمل في دمشق، وتدمير الكثير من الورشات أثناء العمليات العسكرية، خاصة في حلب، التي اشتهرت بصناعة مختلف أنواع الأقمشة والسجاد اليدوي.

تعلّم الشيخ أحمد بشير صناعة قماش الأللاجا من جدّه لأمه الشيخ عبد الحميد الحايك، في بداية سبعينات القرن الماضي، ووصف لـ"عروبة 22" صعوبة نسج هذا النوع من القماش والذي لا يمكن أن ينسج إلا يدويًا، إذ كان يحتاج الثوب الواحد منه إلى مدة تتراوح بين ثلاثة أسابيع إلى شهر ونصف الشهر، وكان لا بدّ أن يكون في الورشة أخصائيون، كما أسماهم، منهم الفتّال والكبّاب الذي يلفّ الخيوط فتصبح على شكل كباكيب، والمسدّي يفرد الخيوط من الكباكيب، ويرتّبها بحسب عدد الخيوط وألوانها، والصبّاغ والملقي الذي يدخل الخيوط - كل خيط بمفرده - في مشط النول بحسب ترتيبها وألوانها، والمزيك الذي يقوم بتغطيس الخيوط بالصمغ أو الغرا مع النشا، ثم مدّها ونشرها على نواتئ مثبتة على جدار طويل، ويصل الخيوط المقطوعة، ويرتّبها، ويأتي بالنهاية دور جدّه الحايك والذي يقوم بمهمته "حياكة النسيج"، ثم قطع كل ثوب إلى تسع أذرع، وتنتهي الأقمشة عند الدقّاق الذي يغسل القماش ويخلّصه من عوالق النشا والمواد الأخرى ويضعه بالمكبس الذي هو بديل المكواة اليوم.

ويقول الشيخ أحمد الذي ما يزال يعيش في دمشق: "بوفاتي ينقرض هذا القماش نهائيًا، والذي كانت تصنع منه صايات سيدات دمشق المزخرفة بالألوان والقصب، فلم يتعلّمها أحد من أبنائي أو أحفاد جدي الآخرين، بسبب التحوّل للإنتاج الآلي، ولصعوبة هذه المهنة اليدوية المرهقة، وغلاء ثمنها والأهم عدم اهتمام الدولة للحفاظ على هذه الحرفة".

اليوم غرق السوق السوري بالأقمشة الصينية رخيصة الثمن ومتنوعة الأذواق والجودة، ولم يعد للأقمشة السورية العريقة أيّ مكان.   

وكذلك الأمر بالنسبة للنحاسيات اليدوية، لم يتبقّ من نحو 400 ورشة كانت تملأ سوق النحاسين المعروف في دمشق والقريب من شارع الملك فيصل سوى 4 ورش فقط.

ويرجع تاريخ صناعة النحاسيات الدمشقية إلى نحو 800 عام، طوّرها الدمشقيون فأضافوا عليها الزخارف والنقوش النباتية والهندسية، وأدخلوا فيها عروقًا من الفضة أو الذهب. وتتطلّب هذه الصناعة الكثير من الصبر والدقة والحرفية، إذ تعتمد بشكل كبير على الخط والرسم الزخرفي، حتى باتت من أجمل ما زُيّنت به القصور الدمشقية التاريخية العريقة، والكنائس والمساجد، من ثريات وفوانيس نحاسية.

"بيت الشرق للتراث"

لإنقاذ ما تبقى من المهن اليدوية السورية العريقة في سوريا، تجمّع عدد من الحرفيين، بغية إنشاء ما يشبه المتحف لعرض هذه المنتجات التراثية التي لا يعرفها الكثيرون من الجيل الجديد، وكمعرض لبيعها.

هذا المشروع أسماه أصحابه "بيت الشرق للتراث"، ويقع في منطقة الجزماتية بحي الميدان الدمشقي ليكون هذا البيت التاريخي حاضنة لحرف وحرفيّين تعرضت ورشاتهم للتدمير خلال سنوات الحرب.

ويعود تاريخ بيت الشرق للتراث إلى نهاية العصر المملوكي وكان مهدّدًا بالانهيار ليعمل أصحاب المشروع على ترميمه عام 2018 ، حيث يُعدّ هذا البيت من مراكز تدريب الحرف والتعريف بأهمية التراث، ووسيلة لكسب عيش كريم للحرفيين وتطوير إمكانيات الوافدين الجدد لهذه المهن من خلال بناء منظومة تعليمية عملية تصب في مجال التنمية المستدامة.

وتتوزّع الحرف المحتضنة في "بيت الشرق للتراث" على قاعات الموزاييك الخشبي والصدف والفسيفساء الحجري والرخام والحفر والنقش بكل أصنافه والخيط العربي والزجاج المعشّق والدهان الدمشقي والخط العربي والسجاد اليدوي.

وفي تصريح للحرفي ماهر بوظو وهو حرفي سوري، وأحد رواد مشروع "بيت الشرق للتراث"، يقول بوظو: "من أجل الحفاظ على هذه المهن والحرف اليدوية من الانقراض، فإننا نحاول من خلال هذا المشروع إعادة بناء جيل جديد وتأهيله للحفاظ على التراث والحرف اليدوية التي ورثناها عن أسلافنا".

ويصرّح أحد المستفيدين من المشروع لـ"عروبة 22" (فضّل عدم الكشف عن اسمه) بأنّ "بيت الشرق" ساعده على المستوى المادي وقدّم له المعدّات اللازمة لاستمراره بالعمل في حرفته التي ورثها عن والده، وهي صنع لوحات الفسيفساء الحجرية، وتركيب قطع الأحجار على الخشب.

ويضيف: "رغم كل ما مرّ على البلاد، وكل ما أصابني من خسائر مادية وإنسانية على المستوى الشخصي إلا أنني لم أهاجر، ولا أريد أن أهاجر، لقد اخترتُ البقاء في بلدي والآن أحاول أن أنقل ما تعلّمته من أبي وجدّي لشباب سوريين من الجيل الجديد حتى لا تنقرض هذه المهن".

الزجاج المعشّق

ضُرب فيه المثل قديمًا حتى قيل "أرقُّ من زجاج الشام"... إذ اشتهرت دمشق منذ آلاف السنين بتصنيع الزجاجيات، وتُعدّ صناعته من أقدم الحرف الدمشقية ويرجع تاريخ نشأتها إلى 2000 عام، وجاءت تسميتها بـ"المعشّق" من ترابط مادة الجص مع الزجاج، ووصف هذا الترابط بالعشق نظرًا للتماسك والتناغم بين الألوان والجص.

اليوم لم يعد هناك أيّ حرفي مختصّ بصناعة الزجاج المعشّق التقليدي، وباتت صناعته تعتمد على بعض الورش التي تستعين بآلات صينية تطبق الزجاج بطريقة تجارية خالية من الفن، أما الزجاج المصنوع بالنفخ فلم أستطع أن أجد أحدًا من حرفييه الذين كانوا يملؤون سوق المهن اليدوية المحاذي لوزارة السياحة والذي أغلق بقرار حكومي منذ سنوات.

ومع اندثار هذه الحرف، نكون أمام تهديد حقيقي باندثار التراث السوري التقليدي، ما لم تستقر سوريا بعد معاناتها الطويلة وتعود لتبني من جديد ما دُمّر فيها... من حجر وإرث وفن.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن