لعلّ مردّ السؤال عن مدى حضور ومتابعة وماهية مواقف المثقف العربي من العديد من القضايا التي تهم الشعوب العربية، هو أنه في خضم هذه الأحداث تُسلّط الأضواء على مواقف السياسيين والباحثين و"المؤثرين" في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن قليلاً ما تسطع مواقف المثقّف إزاء هذه الأحداث والملفات ذات الراهنية.
الملاحِظ المنصف يتوقف في هذا السياق عند ما يمكن تسميته بالأزمة التي يجد المثقف كما المجتمع - على السواء - نفسيهما فيها، فأزمة المثقف بشكل عام، تتمثل في إشكالية التواصل مع هذا المجتمع، وكيفية إرساء المخاطِب "لغة مشتركة مفهومة" مع المخاطَب.
عند "اعتزال المثقف" مجالس المجتمع وهمومه يكبر حيّز الفراغ الذي لن يملأه إلا أشباه المثقّفين
فمن دون لغة مشتركة مفهومة ومبسطة يستوعبها رجل الشارع كما رجل النخبة، لا يمكن أن تكتمل عملية التأثير والتأثر، إذ تجد في طريقها صعوبة لبلوغ الطرف الثاني وإدراك متطلباته وخلفياته، لا سيما وأنّ المثقف (بشكل عام) غالبًا ما يُلقي التهم الجاهزة على المجتمع بأنه لا يتلقى أفكاره ورؤاه وتحليلاته بالشكل اللائق، فيغلق على نفسه الأبواب ويعتزل دنيا الناس، ويكتفي بما يكتبه لنفسه وللنخبة المثقفة والمفكرة مثله.
وعند "اعتزال المثقف" مجالس المجتمع وهمومه المُلحّة، يكبر حيّز الفراغ الذي لن يملأه إلا أشباه المثقّفين وأشباه المبدعين وأشباه المفكّرين، بل يملأه إلى حد النخاع صانعو التفاهات والمحتويات البليدة، فيعمّ الجهل وتنتشر الميوعة الفكرية والأخلاقية. وبالمقابل يجد المواطن العادي نفسه في أزمة متشابكة الخيوط، فيعيش تناقضات المجتمع بين لقمة عيش بالكاد يحصل عليها، وبين ما يُكتب ويُنشر من أفكار وتحليلات ونظريات بات يعتبرها مجرد "ترف فكري" لا يعنيه ولا يعينه في شيء.
المثقف "المعتزل"
ولعله من الإنصاف والعدل ألا يتم جمع كل المثقفين العرب في سلة واحدة، ولا "عوام الناس" أيضًا في مركب واحد، فالمثقّف حيال قضايا مجتمعه الحيوية والرئيسية قد يكون أحد ثلاثة أصناف: مثقف سلبي، أو مثقف متريّث، أو مثقف منخرط.
بخصوص النوع الأول، وهو المثقف المعتزل الذي يصفه البعض بمثقف "البرج العاجي"، والذي يظهر كأنه مغيّب عن الواقع المعاش، يناقش قضايا نظرية وفكرية لا علاقة لها بمعيش واهتمامات أغلبية الناس في مجتمعه. وتنقسم المواقف إزاء هذا الصنف من المثقفين بين من يراه مثقفًا لا يملك مفاتيح التغيير المجتمعي المنشود، ولا أدوات الإصلاح المطلوب، باعتبار أنه "لا يأكل الطعام ولا يمشي في الأسواق"، كناية على اعتزاله مجامع الناس ومجالسهم.
المثقف ليس مطلوبًا منه أن "ينزل إلى الميدان" بل مهمّته أن ينتج الأفكار
ويظلّ مثل هذا المثقف محافظًا على مكانته الاعتبارية السامية كمثقف ومفكّر داخل المجتمع، لكن دون أن يحظى بذلك الإقبال المجتمعي عليه كشخص ولا كفكر ونظريات، بما أنّ الناس يريدون من يرسم لهم ملامح تغيير حياتهم الاقتصادية والاجتماعية إلى الأفضل على أرض الواقع.
وفي المقابل هناك من يدافع عن هذا الصنف من المثقفين العرب، باعتبار أن المثقف ـ في رأيهم ـ ليس مطلوبًا منه أن "ينزل إلى الميدان" أو أن يكون "دون كيشوت" يحارب طواحين الهواء، فتلك ليست مهمّته، بل مهمة السياسيين والمصلحين والحقوقيين. وبالتالي، تبعًا لهذا الطرح، فإنّ مهمة المثقف أن ينتج الأفكار وأن يدبّج المؤلفات والمقالات لإغناء العقل العربي، وإثراء المكتبات والخزانات الثقافية، لتظلّ تراثًا ثقافيًا للأجيال الحالية والمقبلة، لأنه بذلك يصون العقل العربي ويُمرّره من جيل إلى جيل.
المثقف "المتريّث"
والصنف الثاني هو المثقف الصامت المتريّث الذي لا يبدي رأيًا في موضوع أو إزاء أي حدث سياسي ومجتمعي كبير إلا بعد "فوات الأوان"، حيث كثيرًا ما يلتزم الصمت والتريّث رغم "سخونة" الأحداث الجارية في البلد الذي يعيش فيه أو خارجه.
في المغرب مثلًا، كثيراً ما يُضرب المثل على المثقف الصامت أو "المتريّث" بالمثقف والأكاديمي المعروف عبد الله العروي أو المفكر طه عبد الرحمن، أو المفكر الراحل محمد عابد الجابري.
يقول في هذا الصدد الجابري نفسه في مؤلفه "المثقفون في الحضارة العربية" بالرغم من تحفظه على توصيف وتعريف المثقف لغويًا واصطلاحًا، إنّ وظيفة المثقف هو التأمل في الأفكار الموجودة، لا خلقها أو إنتاجها، وذلك في منأى عن التغيير الاجتماعي والسياسي "انطلاقاً من فرديّته".
المثقف مطالَب بأخذ مسافة تحليلية وزمنية حيال ما يحدث من وقائع وأحداث
يحاول الجابري أن يفصل هنا بين المثقف والسياسي، فعباءة المثقف تندرّج في تحليل الأفكار الموجودة واستنباط أفكار أخرى منها، بينما عباءة السياسي هو العمل على إيجاد صيغ للتغيير في الميدانين السياسي والاجتماعي.
وفي المقابل إذا كان البعض ينتقد "الصمت" في مثل هؤلاء المثقفين الكبار، والتواري في "اللحظات التاريخية"، فإن هناك من يجدها صفة لائقة بهم، لأن المثقف مطالَب بأخذ مسافة تحليلية وزمنية أيضًا حيال ما يحدث من وقائع وأحداث، وفي تلك الفترة يكون المثقف قد استجمع أطراف المشهد كلّه، من أفعال وردود أفعال وتداعيات مختلفة، ومقارنتها بما سلف من وقائع مماثلة في بلدان أخرى أو أزمان سابقة، قبل أن يدلي بدلوه.
المثقف "المنخرط"
وأما النوع الثالث من المثقفين فهو المثقف المنخرط في قضايا مجتمعه، والذي يسمّيه البعض "المثقف الملتزم" ومن يسميه "المثقف المشتبك"، أي الذي يشتبك مع هموم مجتمعه، فتجده دومًا في مقدّمة الجماهير لتحقيق مطالبها الحيوية.
والمثقف الملتزم بقضايا مجتمعه، وفق من يؤيدون هذا التوجه، هو الذي يقرن القول بالفعل، ولا يتورّع في أن يتصدّر المشهد بمواقفه وبلاغاته وانتقاداته.
المثقف الحقيقي هو الذي يكون فاعلًا في الحقل الاجتماعي وفي حركة النهضة والثورة
هذا النوع من المثقفين هو الذي أشار إليه الأكاديمي الراحل محمد أركون، عندما اعتبر أن المثقف الحقيقي هو الذي "يظهر في ظروف وسياقات جد خاصة"، ويكون فاعلًا في الحقل الاجتماعي وفي حركة النهضة والثورة.
لكنّ هناك من يرى أنّ هذا المثقف الذي يشتبك ويتصدّر المشهد ويتكلّم بلسان الشعب، قد يتحول إلى "مناضل" أو "نقابي"، أو حتى فاعل سياسي، مما قد يضر بما يفترض أن يكون في مواقفه وأفكاره الثقافية من حيادية وتريث وروية، فالذي يظهر اليوم "أسود" قد يُصبح غداً "أبيض" في معايير السياسة وتقلبات المجتمع، وبذلك قد تجره فتنة وغواية الإعلام ويتيه في سراديب السياسة.
ولعلّ ما شهدته عدة دول عربية في ما سُمّي "ثورات الربيع العربي" كان مجسًا حقيقيًا ظهرت فيه الأصناف الثلاثة من المثقفين، إذ توارى مثقفون عرب إلى الخلف ولم ينبسوا ببنت شفة، ولم تُعرف لهم مواقف إلى اليوم، بينما اختار بعضهم الصمت والتريث إلى أن تحوّل "الربيع إلى خريف" فتكلّموا وألّفوا في تلك الأحداث السياسية الفاصلة، بينما وقف مثقفون وسط "الجماهير" وانخرطوا في التحركات الميدانية الرافضة للاستبداد والناشدة للديمقراطية في عالمنا العربي.
(خاص "عروبة 22")