وجهات نظر

"حرب الخليج لم تقع"!... لكن طوفان الأقصى وقع بالفعل!

في كتابه "حرب الخليج لم تقع" تحدّث الفيلسوف الفرنسي "جون بودريار" عن دور الإعلام كمنتج للأيديولوجيا في عصر ثورة المعلومات الرقمية، واعتبر أنّ من يتحكّم بالإعلام هو من يتحكّم بإنتاج الآلة الذكية الرقمية. وخلافًا للعنوان، يؤمن الكاتب بأنّ الأحداث والعنف قد حصلت بالفعل في حرب الخليج، ولكن الكتاب حاول الإجابة عن السؤال إذا ما كانت الأحداث التي وقعت مماثلة لكيفية تقديمها على وسائل الإعلام الغربية؟ وهل يمكن تسميتها بالحرب؟

يجيب "بودريار" عن ذلك معتبرًا أنّ نمط الحرب المستخدم في حرب الخليج كان مختلفًا جدًا عن الأنماط السابقة، لقد كانت حربًا فوق-واقعية، من حيث أنها كانت حاضرة كصور على شاشات الرادار أو شاشات التلفزيون أكثر من حضورها كمواجهة قتالية على الأرض، وأغلب القرارات في هذه الحرب كانت مبنية على معلومات استخباراتية مقدّمة من الخرائط والصور والأخبار أكثر منها اعتمادًا على الوقائع التي شوهدت.

تبدو الحرب كأنها لعبة إلكترونية، حيث يموت الناس كما يموتون في مشاهد لعبة لا أكثر

لقد كان التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة يخوض حربًا افتراضية، في حين أنّ العراقيين حاولوا أن يخوضوا حربًا تقليدية، وهما لا يمكن أن يلتقيا أبدًا بحسب "بودريار"، وعليه فقدر كبير من العنف قد حدث في تلك الحرب بالفعل، ولكن "حرب الخليج" بحد ذاتها لم تحدث، بل ما حصل هو التقليل من آثار هذا العنف عن طريق الإعلام. وهذا يعني أنه في ذلك الوقت نُظر إلى "حرب الخليج" ليست بوصفها "حربًا"، بل بوصفها "عملًا وحشيًا يتنكّر في شكل حرب" (Merrin). "ليس لأنّ الإعلام مستقل وسيّد نفسه، بل لأنّ القوى القابضة عليه استخدمته للتضليل، ليس لأنّ الإعلام "ذكيّ" و"الصاروخ" ذكيّ جاءت هذه الحرب "نظيفة" أو لم تقع" كما روّج لها الإعلام الغربي، فكلّ ذلك وقع بالفعل ولكن الأيديولوجيا فعلت نماذجها ورموزها وجعلتها حربًا فوق-واقعية.

فوق-الواقع، بحسب "بودريار"، هو عالم يجري العمل فيه لإقناع الناس مثلًا بأنّ الحرب هي السلم، والناس تعتقد بذلك، أو لا تفكّر به أصلًا، إنه العمل لتخريب النظرة السوية إلى الواقع بقوة الميديا فيكون الواقع في الميديا لا في الحدث، وعليه فواقع حرب الخليج بحسب الفيلسوف عملت على إلغاء واقعية الواقع، لقد رأينا "مشاهد الجنود الأمريكيين يتصرّفون في العراق وكأنهم في فيلم القيامة الآن، وتبدو الحرب كأنها لعبة إلكترونية، حيث يموت الناس كما يموتون في مشاهد لعبة لا أكثر" (بودريار)، كمجرّد "أفتارات" افتراضية استدعيت لتزيد من حماس ومتعة اللاعب الفعلي والحقيقي في الواقع، وتنوب عنه في القتال والمخاطرة... ولكن ماذا عن "طوفان الأقصى"؟

"تصعب الكتابة غير العاطفية عن طوفان الأقصى" (عزمي بشارة)، ورغم أنّ إسرائيل سارت على خطى القوات الأمريكية، وجعلت الحرب على غزة حربًا افتراضية قائمة على الاستخبارات والمعلومات والخرائط التي تقدّمها أعتى الشبكات والعقول الآلية، أكثر منها حربًا تقليدية، إلا أنّ المقاومة الفلسطينية كان لها رأي آخر، ليس لأنّ الحرب كانت مشهدية أكثر منها واقعية، بل على العكس من ذلك لأنها تحوّلت ومنذ انطلاقها يوم السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى واقع اجتماعي لم يختلف عليه أو فيه اثنان، سواء من الغرب أو الشرق، لعبت فيه المباغتة وعنصر المفاجأة دورًا كبيرًا، ولأنّ المقاومة الفلسطينية من جهتها أرادت لها ومنذ البداية أن تكون تقليدية وواقعية لا يدخلها عالم إخفاء ولا حجب أو مزايدة، ولذلك انبرى المقاومون مع بدء تخطّيهم الجدار العازل وتوغّلهم في المستوطنات المحيطة بغلاف غزة بنقل سيل من المشاهد والصور والمقاطع بدءًا من الطيران الشراعي وصولًا إلى استعمال الجرافات والدراجات النارية والسيارات رباعية الدفع للتوغّل أكثر، في عملية مشهدية جديدة حاولت محاكاة الواقع في واقعيته وآنيته التي ينتج فيها بعيدًا عن الاصطناع، وفي سياق غربي وعالمي ما زال مترنحًا غير قادر على طرح السؤال كيف؟ ومتى؟.

دمّر "طوفان الأقصى" سردية إسرائيل كما روّجت لها قنوات الإعلام الغربية منذ عقود

في هذه الحرب، نزع الطرف الثاني (إسرائيل) كما حدث في "حرب الخليج" نحو الحرب فوق-الواقعية ليس من طريق الحجب والإخفاء، ولكن من طريق نشر مشاهد الرعب وصور الدمار وتضخيم خطابات القوة والعنف، جعلت رئيس الوزراء الإسرائيلي ومسؤولوه يتسابقون إلى الإعلان عن حرب إبادة شاملة ضد الفلسطينيين والتعامل معهم بوصفهم مجرد حيوانات بشرية، بما فيها قطع الماء والغذاء والكهرباء عن قطاع يُعتبر الأكثر كثافة، ويتميّز ساكنوه بـ"انتخاب طبيعي" لا يوجد في مكان آخر في العالم لمواجهة الأزمات والحروب من جرّاء التكاثر التمايزي الذي سمحت به وعن غير قصد إسرائيل، وقد كانت تلك آلية أساسية لبقاء المقاومة في غزة.

"وبغضّ النظر عن اختلاف المواقف وتعدّد المشارب، وحتى العداوات، من حقّ الفلسطينيين، والعرب عمومًا، أن يشعروا ببعض الفخر والثقة بالنفس" (عزمي بشارة) لاسترداد واقع انفلت منهم منذ مدّة ليست بالوجيزة بل وبناء سرديته ومشهديته ليعبّروا من خلالها عن طريقة اندراجهم في الحياة والعالم. في مقابل ذلك دمّر "طوفان الأقصى" سردية إسرائيل كما روّجت لها قنوات الإعلام الغربية منذ عقود وبنت مشاهدها، "ولما صار الواقع مدمرًا وحقيقته مدمّرة، لا يعود هناك من مجال لغير الكلام عن حقيقة المصطنع" (بودريار).

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن