بساطة السؤال لا سذاجته تفرض نفسها، في ضوء العواصف الداخلية والخارجية التي تهبّ على لبنان والمنطقة. فما الذي حصل حتى تتطلّع الدولة اللبنانية إلى مهمّة كأداء، كحصر السلاح أو نزعه بالقوّة، في بلدٍ قد تنشب فيه حرب داخلية بخلاف على تعيين "مأمور أحراج" وليس على تعيين وزير أو مدير عام!.
وعلى سيرة الأنظمة المُسقطة، يزخر واقعنا المُعاش، بنماذج حيّةٍ لإسقاط الأنظمة، منها:
أولًا، لقد أُسقط النظام العراقي بقيادة صدّام حسين نتيجة غزو واحتلال العراق عام 2003، ويومها حلّ الحاكم الأميركي بول بريمر الجيش العراقي ومعه وزارات وإدارات الدولة التي التهمتها النيران باستثناء وزارة النفط. ووضع دستورًا عُرف بـ"دستور بريمر"، وركّب مجلسًا انتقاليًا، وصاغ مكوّنات البلد دستوريًا، فحوّل أقلّياتها أكثرية، وأكثريتها أقلّية، ولم يزل العراق حتّى اللحظة يتنفّس سموم بريمر، لا سيّما بعدما أقرّ الكونغرس الأميركي "قانون تقسيم العراق عام 2007" لصاحبه جو بايدن، ويبدو أنّ أوان التقسيم قد حان.
دبابة المؤامرة مزّقت نسيج المجتمعات العربية مناطقيًّا وطائفيًا ومذهبيًا وقبائليًا
ثانيًا، لقد أُسقط نظام الجماهيرية الليبية بقيادة معمر القذّافي، نتيجة حرب "ناتوية" دمّرت مقدّرات ليبيا العسكرية والاقتصادية، بحجّة حماية المدنيين، وها هي ليبيا منذ عام 2011، تعيش أسوأ كوابيسها، وشبح التقسيم يُخيّم فوقها، في ظلّ حكومتَيْن تتنازعان السيطرة والشرعية الدولية والمحلية وميليشيات موازية حاكمة تنشب أظافرها في كلّ اتجاه.
ثالثًا، لقد أُسقط النظام السوري ورئيسه بشّار الأسد بفعل تقاطع مُتناقضات إقليمية ودولية أسكنت "هيئة تحرير الشام" ورئيسها أحمد الشّرع على كرسي دمشق. لكنّ الذي تبيّن في سوريا أنّ الذي سقط هو الدولة السورية ككيان، وليس فقط النظام السوري. وها هي الأقاليم تطلّ برأسها، مرفوقةً بأعلامٍ إسرائيليةٍ تُرفرف في "ساحة الكرامة" في السويداء!.
والحقيقة، أنّ الذي سقط في العراق وليبيا وسوريا، ليس النظام، وإنّما الدولة ككيان برمّته، وهو السقوط الذي تحوّلت فيه آمال الثوار والوطنيين إلى درجٍ تسلّقته أو تذرّعت به دبّابة المؤامرة.
النظام اللبناني هو نتاج الطبقة السياسية ذاتها ولو بتعديل أصاب نسبة توازن القوى داخل بنية النظام
هذه نماذج سريعة عن ثلاث دول عربية أُسقطت ونظمها لأسبابٍ مختلفةٍ أو مختلقةٍ، والذي انتصر في الدول الثلاث هو المُسيّرة ودبابة المؤامرة التي مزّقت نسيج المجتمعات العربية مناطقيًّا وطائفيًا ومذهبيًا وقبائليًا، كحال ليبيا في ظلّ ما عُرف بالثورات العربية التي حظيت بالدعم الأميركي والغربي، كما حظيت بانفصام إيران، التي دعمتها وأيّدتها في تونس ومصر وليبيا والبحرين، وعارضتها وقاتلتها فقط في سوريا، تمامًا كما عارضتها لاحقًا في ثورتَي تشرين العراقية واللبنانية. بمعنى آخر، صاغت إيران موقفها من الثورات بما يؤيّد خطّها المذهبي أولًا، وسلامة تخادمها مع "الشيطان الأكبر" ثانيًا.
بالعودة إلى سؤال، هل سقط النظام اللبناني؟ من المفيد التذكير بأنّ النظام اللبناني هو استمرارٌ لما سبقه، وهو نتاج الطبقة السياسية ذاتها ولو بتعديلٍ أصاب نسبة توازن القوى داخل بنية النظام. وقد بُني على أنّ الانتخابات البلدية المنصرمة قد تُعدّل من نسبة التمثيل البلدي، لكن نتيجة الانتخابات البلدية قد ثبّتت معادلة الثنائي الشيعي وحصّته "البلدياتية". ولهذا فهو أمام امتحان الانتخابات النيابية إذا ما أُجريت!.
الذي تغيّر هو توازن القوى الإقليمية والدولية لصالح إسرائيل والولايات المتحدة، خصوصًا في ضوء الهجمة الإسرائيلية المرتدّة على أحداث "طوفان الأقصى"، والتي أصابت "حزب الله" بمقتلة كبيرة أودت بقيادته العسكرية، وقائده التاريخي حسن نصر الله نتيجة انخراطه في جبهة إسنادية لغزّة. كما أدّت إلى إلحاق خسارة استراتيجية بإيران نتيجة إخراجها المُذلّ من سوريا، ما جعل حتّى عبور طائرة علي لاريجاني في أجوائها سرابًا.
في هذه اللحظة الاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية، قرّرت الحكومة اللبنانية التزام ورقة المبعوث الأميركي توم باراك، والشروع في تنفيذ "حصر السلاح بيد الدولة". الأمر الذي عدّه "حزب الله" وحليفه نبيه بري بمثابة انقلاب على التفاهمات التي تدعو إلى ربط تنفيذ القرار بانسحاب إسرائيل وإيقاف عدوانها... إلخ، وتحوّل الأمر إلى سجالٍ بألسنة اللهب، على قاعدة "الحرب مبدأها الكلام".
كرة نار حصر السلاح اليوم، أصبحت بيد الجيش اللبناني الذي سيعرض خطته قريبًا على الحكومة. وأغلب الظنّ أنّ الجيش اللبناني بما تختزن ذاكرته وسيرته الذّاتية من تجارب مريرة وأحداث خطيرة وانشقاقات طائفية وسياسية متوالية، يعلم أنّه في حقل ألغامٍ كبير، فكيف والحال في بلدٍ مفخّخٍ طائفيًا ومذهبيًا ومناطقيًّا وتُحيق به المخاطر المختلفة من اتجاهاتٍ عدّة.
معالجة حصرية السلاح من دون التوافق مع صاحبه ستؤدي حُكْمًا إلى "خراب البصرة"
انطلاقًا من ذلك، أكّدنا في مقالنا السابق "سلاح حزب الله والحلّ اللبناني"، ونؤكد اليوم على أهمّية ومحورية دور الجيش في فكّ صواعق تفجير البلد ونزعها بما يحول دون تحقيق رغبة بعض المغامرين واعتبارهم أنّ نافذة الثأر من "حزب الله" قبل سلاحه قد فُتحت وربّما لن تتكرّر لسنين طويلة، ولهذا فمعالجة حصرية السلاح من دون التوافق مع صاحبه ستؤدي حُكْمًا إلى "خراب البصرة"!.
وإذا ما شرع نتنياهو المدعوم من دونالد ترامب المهموم بتوسيع مساحة إسرائيل في تنفيذ مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي يستهدف العبث بالشرائط والخرائط العربية وبلعها، خصوصًا إذا ما أفصحت قمّة "ترامبوتين" في "ألاسكا" عن تقسيم النفوذ والهيمنة من أوكرانيا إلى شرقي الفرات، فإنّ ذلك سيدفع كلّ الغيارى على بلدانهم إلى التزام المقاومة كخيار لتحريرها من الاحتلال!.
(خاص "عروبة 22")