بعد تردّد وممانعة، فرضتها وقائع وظروف مختلفة، ركب العرب والفلسطينيون موجة التسوية السياسية بشكل رسمي وعلني منذ مؤتمر مدريد سنة 1991 تحت شعار الأرض مقابل السلام. وإن لم يتمكّن هذا المؤتمر من تحقيق الأهداف التي كان العرب يرغبون في تحقيقها لكنه مهّد الطريق لمنظمة التحرير ودولة إسرائيل للتوقيع على اتفاقيات أوسلو سنة 1993، التي أقرّت بحق الفلسطينيين في تأسيس دولة ولكن بشروط إسرائيلية.
مبادرة السلام العربية كانت محلّ تندّر واستهزاء من قبل إسرائيل
اصطدمت المفاوضات بين الطرفين حول تجسيد ما اتُّفق عليه بإرادة إسرائيلية معاكسة لروح أوسلو، إذ لم تنسحب إسرائيل من الضفة الغربية، كما تقرّر في اتفاقية واي بلانتايشن (1998)، كما لم تفِ بوعدها بفتح الممرّين الآمنين اللذين يصلان بين قطاع غزة والضفة الغربية حسب اتفاقات شرم الشيخ (1999)، تمامًا مثلما كان مصير بقية الاتفاقيات التي حصلت برعاية أمريكية أوروبية مثل قمة كامب ديفيد (2000) وخريطة الطريق (2002)، التي حدّدت فترة ثلاث سنوات لقيام الدولة الفلسطينية التي لم ترَ النور لحدّ الآن.
موازاة مع ذلك، تمكّن العرب بعد جهد جهيد، من بلورة مبادرة للسلام كانت محلّ تندّر واستهزاء من قبل إسرائيل التي استمرّت في شن الحروب على سكان غزة ولبنان والضفة الغربية ومحاصرة الشعب الفلسطيني وإذلاله وبناء مستوطنات جديدة والتوسّع في القديمة، متحديةً الجميع، بما في ذلك أصدقاؤها الاستراتيجيون.
استمرّت إسرائيل في استخدام كل الوسائل وخلق الوقائع الجديدة بهدف عرقلة الوصول إلى حل يعترف بالحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، كما حدّدته قرارات الأمم المتحدة أو بنود الاتفاقيات المختلفة الموقّعة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ورغم ذلك ظلّ أمل قطاع واسع من القيادات الفلسطينية في إمكانية تطبيق ما تمّ الاتفاق عليه وتعلّقت الآمال على الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما وانتظرت خطابه وصفّقت له، ثم انتظرت خطاب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو غير أنها صُعقت بمضمونه "الإلغائي"، في الوقت الذي ظلّت آمالها متعلّقة بباراك أوباما ووعوده.
قد يكون من حقّ تلك القيادات أن تتشبّث بأي أمل، وتراهن على متغيّرات قد تأتي من هنا أو هناك، لكن ليس من حقها أن تترك شعبها يعيش على آمال واهية أو على سراب خادع، بل كان عليها أن تواجه الحقائق وتتعامل معها برؤية واضحة، ومن أولى هذه الحقائق التي كان عليها إدراكها هي أنّ إسرائيل غير جاهزة للسلام وهذا أمر لا يقوله به بعض العرب، فحسب، بل يؤكده الإسرائيليون بمختلف توجّهاتهم وتيّاراتهم ناهيك عن الوقائع اليومية الدالة على ذلك.
كما أنّ قطاعًا واسعًا من اليسار الإسرائيلي قد اقتنع، مؤخرًا، بأنّ الحلّ الذي تبنّاه لعدة عقود والمتمثّل في قيام دولتين سيؤدي عمليًا إلى القضاء على دولة إسرائيل كدولة يهودية، وهو ما يُنهي عمليًا مبرّرات الإيديولوجية الصهيونية التي سعت إلى إعادة الشعب اليهودي إلى الأرض الموعودة، الأمر الذي يُفسّر تحوّل قطاع واسع من هذا التيار ورموزه إلى تأييد رؤية حزب الليكود للصراع.
وبالتوازي مع ذلك يعتقد قطاع هام من النخبة الإسرائيلية أنّ السلام غير مجز للإسرائيليين إذ إنه ينطوي على مسّ شديد بالمصالح الوطنية العليا للدولة وللسكان اليهود ويعتبر البعض من هؤلاء أنّ السلام سيمسّ بالاقتصاد وخاصة بالصناعة الأمنية التي تمثّل فرعًا هامًا من حركة تصدير السلاح، لذلك فإنه ليس بإمكان إسرائيل التفريط في قطاع غزة أو الضفة أو الاثنين معًا كحقليّ تجارب لتك الأسلحة. كما أنّ الحفاظ على المستوطنات يَفترض تطويرًا دائمًا لوسائل الأمن بالإضافة إلى ما يوفّره هذا القطاع من مواطن شغل لمئات آلاف الإسرائيليين.
يعتقد هؤلاء أيضًا أنّ السلام المرتقب سيؤدي إلى المسّ بجودة الحياة عند الإسرائيليين، إذ إنه يفترض مثلًا توزيعًا متساويًا لمصادر المياه، الشحيحة أصلًا في البلاد بأسرها، بين اليهود والفلسطينيين ومن الصعب على الإسرائيليين أن يعتادوا على الانضباط في استخدام المياه وهم الذين تعوّدوا على إهدارها والعبث بها. أما المستوطنون - أي القوة الضاربة في المجتمع - الذين يحصلون على أرض زهيدة الثمن وامتيازات مختلفة ودعم حكومي واسع، وبنية تحتية متكاملة وجهاز تعليمي مدعوم بقوة من الدولة، فسيتضرّرون أكثر من غيرهم من السلام الموعود، لذلك سيعمل هؤلاء بمختلف الوسائل لعرقلة أي مبادرة حقيقية للسلام. فهل يبدو السلام مستحيلًا والحالة كما تم توصيفها؟
لا يبدو الأمر كذلك بالمطلق، يقول البعض، فالمسألة نسبية، غير أنها في المقابل مشروطة بعاملين اثنين:
- يتمثل العامل الأول في قدرة الفلسطينيين على الصمود وتحديد استراتيجية نضالية واضحة تأخذ بعين الاعتبار موقع إسرائيل في الاستراتيجية الأمريكية والأوروبية من ناحية، وصورتها في تلك المجتمعات التي تتحكّم فيها مجموعة من القيم الثقافية والفكرية كنبذ العنف والتطرّف، وحساسية تلك الأطراف لكلّ ما من شانه أن يمسّ بـسيادة سكّان إسرائيل اليهود وبأمنهم.
لذلك يقترح هؤلاء أن يخوض الفلسطينيون نضالًا مدنيًا يرتقي إلى ما حصل في الانتفاضة الأولى، أو يتجاوزها بصيغ أرقى وأكثر نجاعة، خاصة وأنّ الفلسطينيين قد تمكّنوا بفضل ذلك من محاصرة الدولة الصهيونية ودفعها للاعتراف بدولة فلسطينية.. ومن كسب قطاع واسع من الرأي العام الغربي إلى جانب ما أعطت الانتفاضة للقضية من أبعاد سياسية وإنسانية جديدة غُيّبت لوقت طويل.
- أما العامل الثاني، الذي يتحدث عنه هؤلاء، فهو نتيجة للعامل الأول. ويتمثل في ما يمكن أن يمارسه المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، الطرف الوحيد القادر على "قلب الموازين"، من ضغوط سياسية واقتصادية على إسرائيل.
من المستحيل أن تتخذ واشنطن مواقف تزعج الدولة الصهيونية أو تهدّد كيانها
ويدرك الجميع أنه من دون السند الأمريكي فإنّ إسرائيل سرعان ما تعود إلى حجمها الحقيقي، كما تدرك إسرائيل نفسها أنه من دون الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن الدولي لكان هذا المجلس قد فرض عقوبات اقتصادية عليها منذ فترة طويلة، على غرار ما حدث لجنوب أفريقيا ذات مرة، وذلك بسبب سلطة الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما تدرك أنه من دون المساعدات الأمريكية فليس بإمكانها الاحتفاظ بجيش كبير وتزويده بالأسلحة اللازمة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل أنّ الولايات المتحدة الأمريكية، حتى بقيادتها الجديدة، قادرة فعلًا على لجم هذه العنجهية الإسرائيلية؟
قد يكون من الصعب الإجابة عن ذلك، لكن بالرجوع إلى التاريخ القريب يتبيّن لنا بوضوح أنّ إسرائيل هي الابن المدلّل لواشنطن، وأنه من المستحيل أن تتخذ هذه الأخيرة مواقف تزعج الدولة الصهيونية أو تهدّد كيانها.
والظاهر، رغم أنّ تبنّي الإدارة الأمريكية لحلّ الدولتين هو مصلحة إسرائيلية أمريكية بالأساس، إلا أنها لا تبدو قادرة على ممارسة ضغوط على إسرائيل، لأنّ ذلك يضعفها على مستوى الداخل الأمريكي، فهل تغيّر معركة "طوفان الأقصى" بعض الحسابات والقناعات الاستراتيجية لإسرائيل وحلفائها؟.
(خاص "عروبة 22")