لم يقتصر هذا التواطؤ على الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى، بل يمتد – حتى الآن - إلى المنظمات الأممية والمؤسسات التي من المفترض أن تكون محايدة بشكل كامل، حتى تلك التي تشغل عضويتها دولة فلسطين ولا تنضم لها إسرائيل، كالمحكمة الجنائية الدولية، فلم يصدر أي تصريح أو تلميح بشأن جرائم الحرب المرتكبة على مدار أسبوعين كاملين، على الرغم من فداحتها قياسًا بمناسبات دموية أخرى، دفعت المحكمة أو الادعاء العام بها إلى التحرّك السريع.
فقد كانت الهجمات الروسية على المستشفيات والملاجئ المدنية بأوكرانيا هي الدافع الرئيسي لإعلان المدعي العام للمحكمة كريم خان فتح تحقيق بشأن وقائع الحرب بين البلدين، بعد اندلاعها بأيام قليلة في شباط/فبراير 2022. ووقتها أكد المدعي العام "وجود أساس منطقي مقبول للاعتقاد بوقوع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في كييف ومناطق أخرى"، حتى أصبح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متهمًا رسميًا بالضلوع في ارتكابها.
استهداف المرافق الصحية كسبب للمساءلة
المنظمات الحقوقية الأوروبية انبرت قبيل هذا الإعلان وفي أعقابه، إلى رصد وحصر وتوثيق عمليات الهجوم الروسي التي طالت المستشفيات والملاجئ المدنية لدعم التحقيق الأممي، حتى أمكن حصر نحو 300 هجوم أدت إلى تدمير 218 مستشفى وعيادة، و65 هجومًا على سيارات الإسعاف، مما أسفر إجمالًا عن مقتل 62 شخصًا وإصابة 52 آخرين، خلال الشهور العشرة الأولى من الحرب، وفق تقرير منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان" الأمريكية.
تتضاءل هذه الأرقام أمام المآسي التي لحقت بجميع قطاعات البنية التحتية في غزّة خلال الحرب الحالية، وبالأخصّ المستشفيات والملاجئ ودور الرعاية والعيادات، وهو وضع مرشّح للتفاقم ساعة بعد ساعة، تحت نير القصف الإسرائيلي الغاشم والتحذيرات المتتالية لمستشفيات أخرى بالقصف ومطالبتها بضرورة الإخلاء، وكان آخرها التهديد الموجه مساء الجمعة الماضية لمستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني. إزاء ذلك كلّه، لم تصدر بيانات أممية إلا من منظمة الصحة العالمية، التي لا تملك أكثر من دق جرس الإنذار لخطورة النقص الفادح في الأماكن الصالحة لإيواء الجرحى والمرضى والعجزة والمقعدين، فضلًا عن استمرار نزيف العاملين في قطاع الرعاية الصحية، مما دعا وزارة الصحة الفلسطينية إلى مطالبة الأطباء والممرضين المتقاعدين بالعودة للعمل لسد العجز.
واللافت أنّ هناك فارقًا شاسعًا أيضًا بين ما يحدث في غزة وما حدث في أوكرانيا على مستوى "المشهدية"، فالجرائم الإسرائيلية تقع على مرأى ومسمع من العالم، وتنتشر مقاطع الفيديو والصور عن أوضاع المستشفيات في جميع منصات التواصل الاجتماعي، بينما كانت الأدلة التي بُنيت عليها الحالات الأوكرانية تعود في مجملها إلى شهادات شفهية جُمعت من أصحابها على مدار عام كامل، وتم توثيقها بمعرفة منظمات أمريكية وأوروبية جعلت من هذا الملف شغلها الشاغل، لدعم التحقيق الأممي. لكن علانية الاعتداء الإسرائيلي لم تكفِ لتحرّك مماثل، فما زال كريم خان ملتزمًا الصمت، استمرارًا لسكوته على ملفات فلسطين منذ رحيل المدعية السابقة فاتو بنسودا عن منصبها قبل عامين، وهي التي بدأت تحرّكين متتاليين عامي 2019 و2021 لملاحقة مرتكبي جرائم حرب إسرائيلية محتملة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزّة والقدس الشرقية.
ماذا يمكن أن تفعل الجنائية الدولية؟
يعتقد كثيرون أنّ فلسطين لا يمكنها الولوج إلى منظومة القضاء الأممي، إلا أنّ هذا الأمر غير صحيح. فقد انضمّت دولة فلسطين إلى نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية بعضوية كاملة عام 2014، وبالتالي بات من حقها أن تطلب من الادعاء العام بالمحكمة التحقيق مباشرة في الفظائع التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزّة والقدس الشرقية، باعتبارها الحدود الرسمية لدولة فلسطين وفق مقررات الشرعية الدولية، وذلك بعدما كان يتوجب على الفلسطينيين انتزاع قرار تحقيق خاص من مجلس الأمن.
كما أنّ نظام روما يسمح للادعاء بفتح التحقيق، من دون اشتراط موافقة قضاة المحكمة على ذلك، الأمر الذي استغلّته المدعية السابقة بنسودا، بغض النظر عن أنّ إسرائيل ذاتها – كما روسيا والولايات المتحدة - لا تعترف بهذا النظام ولا تتعاون مع المحكمة وأجهزتها.
ويُجرّم نظام روما استهداف المستشفيات وغيرها من المرافق المدنية والخدمية التي يتعامل معها المدنيون ويلجأون إليها في أوقات الحرب، ويعتبره من أشكال جرائم الحرب المنظّمة (المادة الثامنة، البند الثاني، الفقرتان الرابعة والتاسعة) ويعامل هذا الاستهداف كجرائم ضد الإنسانية، خاصة مع ما يترتّب عليه من حرمان الأهالي من المياه والغذاء والدواء والوقود ويؤثّر على مقوماتهم الحياتية. ويجد المتأمّل أنّ جميع شروط قيام الفعل الإجرامي متوافرة في حرب غزّة الآن، في مجزرة المستشفى المعمداني وغيرها من الوقائع.
هل من أفق للتحرّك القانوني؟
يمثّل تحرّك "الجنائية الدولية" سببًا لقلق المتهمين أيًا كانت وظائفهم الرسمية، نظرًا لاحتمالية فرض قيود على حركتهم حول العالم، كما يحدث في الفترة الأخيرة مع بوتين الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف في آذار/مارس الماضي.
ومع أنه لا يمكن تجاهل وجوب توافر الإرادة السياسية للدول الكبرى أولًا، فإنه يجب التحرك لتوثيق مجزرة المستشفى ومثيلاتها فورًا حتى لا تتوه الأدلة في زحام الأحداث، نظرًا لصعوبة إثبات ارتكاب تلك الجرائم وفق القانون الدولي على المدى الطويل إلا بمعايير محددة.
فمن بين حالات استهداف المستشفيات والمرافق الصحية الأخرى التي عُرضت على المحكمة منذ تأسيسها في لاهاي عام 2002 لم يصدر حكم بالإدانة إلا في حالة واحدة هي مذبحة مستشفى فوكوفار التي وقعت أحداثها عام 1991 وشهدت مقتل 250 كرواتيًا برصاص الصرب، ودفنهم في مقبرة جماعية اكتُشفت في العام التالي، وعوقب في هذه القضية ضابطان صربيان في "الجنائية الدولية" ثم عوقب 15 آخرون في محاكم محلية.
ودعت السلطة الفلسطينية المحكمة مؤخرًا إلى التحرّك، لكن الأمر يبدو وكأنها تنتظر ضغطًا دوليًا أكبر، سواء من الدول الأعضاء في نظام روما أو مجلس الأمن، أو من المنظمات التي كرّست الكثير لصالح أوكرانيا العام الماضي، لكن العقبة الأكبر ستكون في محاولة بعض الدول الموالية لإسرائيل تخويف المحكمة وعرقلة عملها بممارسة ضغوط سياسية، كما سبق وحدث عندما اعترضت أستراليا على قرار المحكمة التمهيدي باختصاصها بنظر جرائم ارتُكبت على أرض فلسطين في شباط/فبراير 2021.
(خاص "عروبة 22")