لم يكن أحد من ممثلي الدول الأوروبية في "مؤتمر القاهرة للسلام" مستعدًا لإدانة العدوان الإسرائيلي المتصل والعشوائي على غزة، أو تبني أية صيغة إنسانية توقف المجازر بحق أهلها.
الولايات المتحدة مثّلتها في قمة القاهرة القائمة بأعمال سفارتها بالقاهرة، رغم أنّ وزير الخارجية انتوني بلينكن يكاد لا يغادر المنطقة.
والدول الأوروبية الكبرى فرنسا وألمانيا وانجلترا مثّلها وزيرات ووزراء خارجيتها رغم أنّ قادتها يضعون التطورات الجارية في غزة على رأس أولوياتهم.
كان ذلك مقصودًا حتى لا تخرج عن مؤتمر القاهرة أية مخرجات تربك الخطط الإسرائيلية لاجتياح غزة وتصفية المقاومة فيها.
الإفشال العمدي عنوان رئيسي فيما جرى أمام الكاميرات.
بنظرة ما على توقيت الدعوة المصرية لعقد ذلك المؤتمر يبدو التعجّل واضحًا.
لم يكن ممكنًا أن ينجح مؤتمر ينسب نفسه إلى السلام في ظلّ تحشيد عسكري وسياسي واستراتيجي غربي لدعم التجهيزات الإسرائيلية الجارية لغزو غزة.
ممثلو الدول الغربية حاولوا بكل طريقة ممكنة إفشال المؤتمر في أن يصل إلى أية مخرجات تساعد على تخفيف التصعيد
بنظرة أخرى، الهدف الحقيقي للدعوة في توقيتها يتجاوز ما هو معلن إلى طلب بناء موقف إقليمي ودولي يرفض التهجير القسري، من غزة إلى سيناء، أو من الضفة الغربية إلى الأردن تاليًا.
بدا واضحًا أمام العالم أنّ هناك توافقًا مصريًا وفلسطينيًا وأردنيًا، شبه مدعوم عربيًا وأفريقيًا، على رفض ذلك المشروع، الذي حاول وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن الترويج له دون جدوى.
يكفي أن ننظر في تصريحات أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش عند معبر رفح، وهو رجل لديه خبرة طويلة في شؤون اللاجئين، لندرك حجم التعقيدات والألغام التي تحيط بأخطر قضايا الأمن القومي وأكثرها حساسية.
"إنّ مصر بلد ذات سيادة"، كان ذلك تصريحًا مقتضبًا يقول كلّ شيء ولا يقول أيّ شيء.
أراد جوتيريش أن يبدي تفهّمه للمخاوف المصرية من سيناريو التهجير القسري إلى سيناء، دون أن يتصادم مع القوى الكبرى التي تهيمن على المنظمة الدولية.
الدول الأوروبية، التي يُفترض أنها صديقة، تجنّبت الإشارة إلى تلك المخاوف ولا حاولت أن تطمئن الحليفتين التقليديتين مصر والأردن على سلامة ووحدة أراضيهما.
الأخطر والأفدح أنّ ممثلي الدول الغربية حاولوا بكل طريقة ممكنة إفشال المؤتمر في أن يصل إلى أية مخرجات تساعد على تخفيف التصعيد والتوتر، الذي يكاد يدفع الشرق الأوسط إلى حافة حرب إقليمية واسعة لا يريدها أحد، لكن قد تندفع لها الحوادث العاصفة.
أسوأ ما جرى في المداخلات الأوروبية تبرير جرائم الحرب، التي تُرتكب في غزة المحاصرة باسم "حق" إسرائيل في الدفاع عن نفسها والسعي بالوقت نفسه لاستصدار بيان يتبنّى الرواية الإسرائيلية عن عملية "طوفان الأقصى" والرهائن الأجانب.
نحن أمام خطاب غربي يفتقد إلى أية قيمة إنسانية وأخلاقية، مزدوج في معاييره، ويوفّر رخصة لقتل آلاف آخرين من المدنيين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
دون حاجة إلى نظرية مؤامرة، فإننا أمام تواطؤ معلن مع العدوان الإسرائيلي بكل جرائم الحرب التي يرتكبها ضد الإنسانية. تواطؤ لا يمانع في التطهير العرقي والتهجير القسري.
إنه السقوط الأخلاقي المروّع والتواطؤ على التقتيل الجماعي الصريح.
لمرّتين متتاليتين، أُجهض في مجلس الأمن الدولي مشروعا قرارين، أحدهما روسي- إماراتي والآخر برازيلي لهدنة إنسانية.
الملفت هنا أنّ الولايات المتحدة، التي أجهضت بحق النقض أية هدنة إنسانية، طرحت مشروعًا جديدًا يدعو إلى استدامة المساعدات الإنسانية، لكنه لا يتبنى وقف التصعيد، كأنها تبرّئ ذمّتها من مسؤولية تجويع قطاع غزة والعصف بأهله دون أن تكون جادة.
التواطؤ صريح ومعلن من مؤسسات الحكم، غير أنّ الصورة في الغرب ليست داكنة تمامًا.
هناك بوادر تمرّد، مرشّح أن يتّسع ويكبر، على الانحياز المطلق لإسرائيل.
التظاهرات الشعبية المؤيدة للحق الفلسطيني تعم العواصم والمدن الأوروبية الكبرى، كما العواصم والمدن العربية والإسلامية.
تظاهرات لندن بمئات الآلاف ولا مثيل لها منذ عقود.
جيل جديد يولد من قلب محنة غزة سوف تكون كلمته حاسمة في تقرير مسار التاريخ العربي
استطلاعات الرأي العام الأمريكية تُظهر أنّ أغلبيته تعترض على سياسات جو بايدن وتدعو لوقف الحرب على غزة، والتفاعلات على شبكات التواصل الاجتماعي تُبرز تأييدًا ظاهرًا للقضية الفلسطينية على حساب خطاب الكراهية والعنصرية.
مساهمات الشباب العربي في الداخل والخارج على تلك الشبكات نجحت في تفنيد الرواية الإسرائيلية.
بأي نظر تاريخي، فهناك جيل جديد يولد من قلب محنة غزة يؤمن بالقضية الفلسطينية ويدافع عنها وسوف تكون كلمته حاسمة في تقرير مسار التاريخ العربي.
لا الأمريكيون ولا الإسرائيليون لديهم أدنى تصوّر متماسك لما قد يحدث بعد العمليات العسكرية التي يعتزمونها.
بايدن يحذّر من احتلال غزة دون أن يطرح مشروعًا سياسيًا متماسكًا ومقنعًا.
ووزير الدفاع الإسرائيلي يعلن توجّه حكومته للتحلّل من أيّ مسؤولية في غزة بعد اجتثاث "حماس"، وتسريبات متواترة عن مشروع لإسناد مهمة حفظ الأمن في القطاع لقوات عربية، كما لو كانت عملية إعادة إنتاج للدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية برام الله في حماية الأمن الإسرائيلي.
هذا السيناريو لا يمكن قبوله، فهو يكاد يماثل في خطورته التهجير القسري.
بدوره يحذر توماس فريدمان، الكاتب الأمريكي الموالي لإسرائيل، على صفحات "نيويورك تايمز" من العواقب الكارثية على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط إذا ما اقتُحمت غزة دون خطة سياسية تتبنى "حلّ الدولتين".
وهذا وهم آخر متوارث منذ أربعة عقود.
هذه حقيقة لا بد أن ندركها قبل أن تتوه أقدامنا في الانفجارات المحتملة المقبلة.
(خاص "عروبة 22")