ورغم قسوة الموت، فإنه لا يمثّل الحقيقة الأصعب، فيما يواجه الأهالي هناك من استباحة مفتوحة المصائر، واحتمالات بعضها سيكون أصعب من الموت في ظلّ الأوضاع القائمة وتدهورها المتزايد في واقع يتبدّل على مدار الساعة، ويدفع ظروف الحياة نحو الأسوأ، ويحمل تهديدات لم تكن مطروحة في السابق، أبرزها أن يكون الفلسطيني شخصًا مباحًا في كل شيء.
ففي ظلّ استمرار إسرائيل في حربها الواسعة، ولا سيما لجهة تدمير المشافي والمراكز الصحية، التي خرج أغلبها من الخدمة كليًا أو جزئيًا، ووسط انهيار الخدمات الصحية الناجمة عن قتل وجرح طاقمها البشري، وتدمير آليات الإسعاف، ونفاد المخزون الدوائي، وإغلاق الحدود في وجه حركة الإسعاف المحدودة إلى مصر، فإن كلّ جريح مرشّح للموت، ويمثّل حملًا ثقيلًا على محيطه في ظروف صعبة.
خطة التهجير إلى سيناء تذهب إلى تحوّلات كبيرة على القضية الفلسطينية، ومستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي
وتزداد ظروف فلسطينيي القطاع صعوبة، وسط الحصار، واستمرار قطع الإمدادات الأساسية ومنها الماء والغذاء والكهرباء والمحروقات عنه، مما يجعل استمرار السكان بالعيش شديد الصعوبة، خاصة وأنه لا تتوفّر لديهم أي امكانات محلية بديلة تساعدهم على البقاء.
وسط تلك الظروف، أعلن الإسرائيليون تتمّة سيناريو الحرب في خطين أولهما اجتياح غزة برًا، وطلبوا مغادرة سكانها إلى الجنوب، وأرفقوا الطلب بتكثيف هجماتهم الجوية والصاروخية وتوسيعها، وهذا تهجير جزئي تحت السلاح، ستكون له آثار مدمّرة، والثاني إعادة طرح خطة قديمة، تكرّر طرحها وفشلها مرّات، وتقضي بتهجير فلسطينيي القطاع إلى شمال سيناء، وهي الأخطر، وتضمّنت الخطة في ثوبها الجديد إغراءات وشروط تشجيعية لمصر لقبول الخطة بينها تحمّل تكلفة تهجير وإقامة الفلسطينيين والوعد بإرجاعهم إلى القطاع مستقبلًا، وحسب ما رشح من معلومات، فإنّ واشنطن تدعم الخطة بإعفاء مصر من ديونها الخارجية، غير أنّ الموقف العربي، وخاصة من الجانبين الفلسطيني والمصري، كان حاسمًا في رفض خطة التهجير، لكن الأمر بحاجة إلى تعزيز ودعم، لأنّ الضغوطات الإسرائيلية - الأميركية ستتواصل، ويمكن أن تتصاعد بحكم ما يظهر في الموقف الدولي من تأييد كبير لإسرائيل.
ورغم أنّ الأثر المأساوي الذي تركته الحرب الاسرائيلية على القطاع، لم تتحدّد نهاياته حتى الآن، فمن الممكن القول، إنه كبير وخطير في كل الأحوال، وأهم أخطاره هو الذهاب إلى خطة التهجير إلى سيناء، والتي إضافةً إلى تكلفتها الإنسانية والمادية المباشرة، فإنها تذهب إلى تحوّلات سياسية وأمنية كبيرة على القضية الفلسطينية، ومستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي.
وسط صورة الكارثة التي يتّجه إليها الوضع الفلسطيني في قطاع غزة، وبدرجة أقل في الضفة الغربية، فإنّ الأوضاع الإقليمية والدولية، تشكل ضواغط إضافية على الغزيّين. فالقوى التي تصف نفسها بقوى المقاومة والممانعة، وترعاها إيران، مستمرة في إضعاف وتشتيت المحيط الإقليمي، بل وفي غمرة التحشيد الإسرائيلي- الغربي في مواجهة الفلسطينيين، ما زالت تتابع صراعاتها على الجبهات الفرعية، كما في خوض المعارك السياسية من جانب "حزب الله" مع اللبنانيين حول كل تفصيل يتعلّق بلبنان، ومنها تكثيف الجهد العسكري لنظام الأسد وحليفه الروسي في الحرب على المدنيين في شمال غرب سوريا، وتتابع الجماعات السياسية والمليشيات صنيعة إيران في العراق الاستجابة لتوجيهات الوليّ الفقيه في الداخل العراقي وفي محيط العربي.
انقلاب الموقف الدولي من تأييد إسرائيل إلى مناصرة سافرة في مخالفتها للقانون الدولي وللقيم التي يتبنّاها الغرب
فيما غالبية البلدان العربية مشغولة ببرامجها، سواء كانت تتعلق بمعالجة ما لديها من مشاكل داخلية أو خارجية، أو مشغولة بخطط تنموية، تسعى من خلالها نحو استدراك ما فاتها من فرص وخطط التنمية والتقدّم، أو بالموضوعين معًا، الأمر الذي يجعل الأغلبية العربية في أدنى درجات التفاعل الإيجابي المطلوب في الوضع الفلسطيني ومجمل الأوضاع العربية.
والأخطر فيما أحاط ويحيط بالحرب الإسرائيلية على غزّة وانعكاسه على حياة الفلسطينيين هناك وفي الأماكن الأخرى، يمثّله انقلاب الموقف الدولي في انتقاله من تأييد لإسرائيل لا يخلو من اعتراضات وملاحظات، إلى مناصرة سافرة ومستفزّة في مخالفتها للقانون الدولي وللقيم الشائعة التي يتبنّاها الغرب وللتقاليد السياسية في إعلان المناصرة السياسية، وتقديم الدعم المادي وفق ما تطلبه إسرائيل (والأخير موقف أمريكا على الأقل) إلى إرسال طليعة الآلة العسكرية الغربية إلى شرق المتوسط، وتُوّج كل ما سبق في زيارات مسؤولين غربيين كبار لاسرائيل بينهم الرئيس الأميركي ووزيري خارجية ودفاع واشنطن، ورئيس الوزراء البريطاني، والرئيس الفرنسي.
إنّ الأوضاع الإقليمية والدولية المحيطة بالفلسطينيين، وخاصة أهالي قطاع غزة في ظلّ الحرب الإسرائيلية عليهم، تؤشّر إلى مقدار الخطر الذي يحيط بهم وبقضيّتهم، والذي لا شك أنه سيترك تأثيراته في بقية المحيط العربي. ففي العام 1967، خسرت سوريا ومصر والأردن الحرب مع إسرائيل، لكنّ الفاتورة دفعها العرب جميعًا، ونتائج الحرب على غزّة اليوم سوف، بل بدأت، تفرز نتائجها على المحيط العربي، ما لم يتدارك القادرون والفاعلون فيه دورهم ومسؤولياتهم في إنقاذ محيطهم وإنقاذ أنفسهم أولًا.
(خاص "عروبة 22")