بصمات

في "البداوة الذهنية".. عربيًا

تحدّث الباحث التونسي الراحل المنصف ونّاس في سياق تحليله للشخصية القاعدية أو الأساسية العربية من خلال الحالتين التونسية والليبية بصفة خاصّة عمّا اصطلح على تسميته بـ"البداوة الذهنية" وقد كان يطمح إلى تحويل هذه المسألة إلى مشروع بحثي لولا أنّ المنيّة باغتته إثر تفشّي جائحة كورونا خلال سنة 2020.

في

ولئن تمّت المراوحة بين مصطلحَي "الذهنية البدوية" و"البداوة الذهنية"، فإنّنا نعتقد أنّ عبارة البداوة الذهنية أكثر دقّة باعتبارها تشي بنمط مستحدث من البداوة تجعله مناقضًا لمفهوم البداوة المادية أو المعيشية المعروفة في طبائع العمران البشري بالصيغة المتداولة في مقدّمة ابن خلدون مثلًا.

المقصود بالبداوة الذهنية، المنظومة الذهنية والثقافية الموجّهة لتصوّرات الأفراد وسلوكياتهم. وهي بهذا المعنى تشمل مختلف النظم التربوية والثقافية فضلًا عن المتخيّلات الاجتماعية والأعراف والعادات المؤثّرة في تصرّفات الأفراد والجماعات المنتمية للمجال الثقافي العربي الإسلامي. لذا يُعرّفها المنصف ونّاس في كتابه "الشخصية الليبية: ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة" بأنّها: "نظام ذهني وثقافي وقيمي وتربوي شديد التأثير في سلوكيات الأفراد. ولعلّ ذلك ما نسميه بالبداوة الذهنية. وهي الأدوم والأكثر فاعلية في بنية المجتمع ومعيش الأفراد والأكثر إلزامًا لسلوكهم. فيمكن أن تنتفي شروط وجودها المادية والاقتصادية والمعيشية، ولكن يستمرّ تأثيرها في الواقع اليومي للأفراد لأنّه بنية لمنظومة التمثّلات الثقافية. والبداوة الذهنية ثقافة قبل أيّ شيء آخر، فهي لا تندثر حتّى إن اندثرت فاعليتها المادية والإنتاجية".

وبقدر ما يوجد تنوّع دلالي في مستوى المصطلحات المرادفة أو القريبة دلاليًا من عبارة البداوة الذهنية، فإنّه مما لا شكّ فيه أنّ عوامل استمرارية البداوة الذهنية، وتوسّع امتدادها، لا تنحصر في عوامل مباشرة، وإنّما تشمل عوامل بنيوية عميقة ظلّت تختمر طيلة قرون إلى أن شكّلت نسقًا ثقافيًا مهيمنًا وموجّهًا للمنظومة الذهنية والثقافية العربية الإسلامية.

السياسات الثقافية المعتمدة بالعالم العربي أهي حقًّا سياسات وطنية تستهدف بناء الإنسان؟

يمكن إيجاز تلك العوامل في تكلّس الفكر وانغلاق الثقافة بحيث لم يستطع الفكر العربي الإسلامي تجديد آليات اشتغاله بل حتّى تحديد مضامين الرؤية التي تتمّ في ضوئها عملية الإصلاح والتصحيح الذاتي. وهو ما جعل الثقافة العربية الإسلامية تراوح مكانها في إطار ترضيات محدّدة رغم تعاقب أجيال المصلحين والمفكّرين والباحثين. وللإشارة ننظر للثقافة في هذا الصدد باعتبارها "آلية ضبط وتحكّم وتأثير" بالمعنى الذي وضعه كليفورد غيرتز (Clifford Geertz) في تأويله للثقافات.

وقد شكّلت العوامل المباشرة امتدادًا لذلك الانحراف الخطير. إذ لم تستطع الأنظمة التربوية والتعليمية تجاوز تلك البداوة الذهنية إلى آفاق إنسانية أرحب رغم تتالي المشاريع الإصلاحية وقوانينها في أكثر من بلد عربي، واستمرار نظم الحكم العربية بمعدّل يقارب الثلاثة أو الأربعة عقود غالبًا. وهو ما كان يسمح لها باعتماد استراتيجيات طويلة أو متوسطة المدى لتحقيق التغيير المأمول.

يطرح المعطى المذكور آنفًا المتّصل بتأثير اختلال الأنظمة التربوية والتعليمية في استفحال البداوة الذهنية أسئلة حول نوعية السياسات الثقافية المعتمدة بالعالم العربي: أهي حقًّا سياسات وطنية تستهدف بناء الإنسان بصفته كائنًا حقّانيًا له الحقوق نفسها مع بقية المواطنين ضمن مبادئ الكفاءة والاقتدار والنزاهة والشفافية، أم سياسات لتأبيد الأوضاع القائمة واستمراريتها ما دامت لا تشكّل خطرًا على التوازنات القائمة بطبقاتها المهيمنة وأيديولوجيتها التبريرية؟

تتجلّى البداوة الذهنية في أكثر من مستوى سواء على صعيد الخطاب أو الممارسة. فعلى صعيد الخطاب كثيرًا ما يطغى الانفعال والارتجالية والتهديد والوعيد ما قد يرتقي إلى مرتبة العنف الرمزي، لكن دون تأثير حقيقي في تغيير الواقع العربي إيجابيًا. وهو ما حدا بأحد الباحثين العرب المعاصرين إلى وصف العرب بـ"الظاهرة الصوتية". وقد بدا توصيف القصيبي توصيفًا دقيقًا رغم ما فيه من مبالغة وتضخيم بحكم أنّ للعرب تاريخًا وحضارةً لا يمكن تجاهلهما أو طمسهما رغم الانسداد التاريخي الراهن.

حوّلت ذهنية البداوة الديمقراطية من آلية وضرورة تاريخية لتحقيق العدالة الاجتماعية وتكريس دولة القوانين والمؤسّسات إلى شكل من أشكال التدمير الذاتي مثلما تشهد بذلك تجارب الانتقال الديمقراطي التي شهدتها بعض الدول العربية منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، سواء في ليبيا واليمن وسوريا أو حتّى تونس ومصر. وهو ما يبرز في التراجع الرهيب لقوى الإنتاج والنمو مقابل تزايد مخاطر ومؤشّرات تفكّك الدولة والمجتمع.

ولئن يظهر ذلك الخلل في الإيديولوجيا السائدة بصفتها أيديولوجيا هوياتية بدل أن تكون أيديولوجيا برامجية قائمة على مشاريع واضحة وبرامج مقنّنة، فإنّ تأثير النسق الثقافي القائم على الغلب والقهر والشوكة والعصبية و"جدع الأنف" بالتعبير الخلدوني له تأثير عميق في حالة المسخ والتشويه التي طالت أهمّ مكتسبات العقل السياسي الإنساني الحديث عند استعارة مفاهيمه واستهلاكها في البيئة العربية.

الديمقراطية تكون أوّلًا في "صندوق الجمجمة" قبل صناديق الاقتراع 

يتعزّز هذا الموقف أكثر بالرجوع إلى محصول مختلف التشكيلات السياسية العربية عند انتقالها من طور القوة إلى طور الفعل ولا سيما عند وصولها إلى سدّة الحكم، ومرد ذلك أنها تعيد إنتاج المنظومة القديمة نفسها الموروثة عن دولة الأحكام السلطانية والتنظيمات بإخراج جديد. وهذا يعود إلى اشتراك مختلف تلك التشكيلات السياسية على اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية والفكرية في "الإبستمي" نفسه بالمعنى الفوكوي مثلما أشار إلى ذلك المفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز منذ عقود في بحثه حول العرب والحداثة.

ولئن لم تكن الديمقراطية المفهوم الوحيد الذي انحرف تحت تأثير البداوة الذهنية بما أنّ جلّ المفاهيم الحديثة تمّت "أدلجتها" شأن مفاهيم الثورة والحكم الجمهوري والنهضة والحداثة، فإنّها تعدّ مرآة عاكسة للقحط الحضاري الذي أصاب العقل السياسي العربي. وهو ما أفضى ببعضهم إلى الحديث بصفة استعارية مجازية عن استحالة حصر الديمقراطية في الانتخابات وصناديق الاقتراع لأنّ الديمقراطية تكون أوّلًا في "صندوق الجمجمة" قبل صناديق الاقتراع على حدّ تعبير جورج طرابيشي.

لا يقتصر انتشار البداوة الذهنية في المجال السياسي، وإنّما تمتدّ إلى بقية المجالات سواء كانت أساسية أم ثانوية. ففي المجالات الأساسية التي تشمل الجوانب العلمية والفكرية والإدارية يغيب العمل المؤسّساتي القائم على العمل الجماعي والمنهج التشاركي في إطار تبادل الخبرات. فكم من مؤسّسة يتوقّف فيها العمل على بعض الجهود الفردية التي غالبًا ما تطمس أو تقبر إذا تناقضت تلك الجهود مع منطق "الغنيمة" و"الحوزة". ومن الأمثلة الأخرى على تلك البداوة الذهنية تحوّل العمل النقابي داخل الجهاز النقابي الواحد إلى تجاذب وتناحر قطاعي وشخصي في معظم الأحيان.

المطلوب "ثورة ثقافية" تتمّ في ضوئها عملية تصحيح ذاتي تخلّص الثقافة العربية من عناصر الجذب إلى الوراء

أمّا في المجالات الهامشية، فيمكن الإشارة على سبيل الذكر إلى تحوّل المقابلات الرياضية في كرة القدم خاصّة ببعض الدول العربية إلى ما يُشبه "الحرب الأهلية" القائمة على النعرات الجهوية والفئوية، ما يتسبب في أحداث عنف دامية رغم حشد قوات أمنية ضخمة.

لئن لا تكفي عشرات الصفحات لرصد أوجه تأثير البداوة الذهنية في الأنماط السلوكية والاجتماعية العربية، فإنّه يمكن تجاوزها بالتربية على قيم المواطنة وترسيخها باعتبارها بديلًا لها، سواء على المستوى النظري المتعلّق بالسمات العامة للشخصية القاعدية أو على المستوى العملي من خلال إرساء دولة القوانين والمؤسّسات. وهو ما يفضي إلى خلق "مجتمع الاقتدار" الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون وتثمّن فيه قيم النزاهة والشفافية والكفاءة والاقتدار.

بيد أنّ كلّ هذا لا يمكن أن يحصل دون "ثورة ثقافية" بالمعنى الذي تتمّ في ضوئها عملية تصحيح ذاتي واسعة النطاق تخلّص الثقافة العربية من عناصر الجذب إلى الوراء وكلّ الشوائب المتّصلة بها، وسلطة النماذج الجاهزة ليتحرّر العقل العربي ويستأنف دوره الحضاري المعطّل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن