وجهات نظر

الانحياز الأوروبي السافر لإسرائيل.. لماذا؟

أسئلة كثيرة ألحّت عليّ وأنا أستمع لكلمات رؤساء الوفود الأوروبية - تحديدًا - في مؤتمر السلام المصري، كان أوّلها هو لماذا كل هذا الانحياز السافر الذي يمارسونه لصالح آلة التدمير الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة؟، وثانيها هل هذه هي أوروبا التي طالما تشدقت بقيم العدالة والديمقراطية والأخوة الإنسانية والحرية والمساواة وبطرق مسارات العقل والحوار لإدراك وتأمين الحقوق للجميع على اختلافهم؟، وثالثها هل هذه هي أوروبا التي كانت تحاول - تاريخيًا - أن تميّز نفسها عن الولايات المتحدة الأمريكية، ولو قليلًا، انطلاقًا من قيمها المركزية الثقافية التاريخية التي أنارت العالم واندهش وتأثّر بها الكثيرون ومن ثم كانت تفتح سبلًا حوارية للوصول إلى حلول منصفة قدر الإمكان؟.

الانحياز الأوروبي السافر لإسرائيل.. لماذا؟

الثابت تاريخيًا أنّ أوروبا الدول والمؤسسات القارية كانت دومًا منحازة لمقررات الشرعية الدولية ومرجعية قرارَي مجلس الأمن الدولي 242 و338 اللذين يلزمان إسرائيل بالعودة إلى حدود ما قبل حرب 1967، كذلك لحلّ الدولتين وأن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين المستقلّة.

وتؤكد القراءة التاريخية أنّ أوروبا قد ظلّت على موقفها الواضح والحاسم إلى وقت قريب، فرأيناها تدين مشروع قانون الدولة القومية الذي أقرّته إسرائيل في يوليو 2018 والذي ينصّ على أنّ إسرائيل: دولة قومية للشعب اليهودي. وجددت دعمها لحلّ الدولتين، كما تحدّت اعتراف الإدارة الأمريكية في الزمن الترامبي (مارس 2019): بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان.

وفي 15 مايو/أيار 2020 التأم وزراء خارجية أوروبا عبر مؤتمر افتراضي (في ذروة الجائحة الفيروسية) لمناقشة مشروع مطروح من قبل التحالف اليميني المتشدّد الحاكم (أجراه بنيامين نتنياهو مع بيني جانتز عشية تشكّلها في 17 مايو/أيار 2020) الذي ينصّ على: ضمّ إسرائيل لجزء أساسي من الضفة الغربية؛ إضافة، كما تكشف دراسة حديثة، إلى ضمّ "القدس الكبرى"، دون أن يترك للفلسطينيين شيئًا سوى جيوب صغيرة لا اتصال بينها، "تتبع دويلة افتراضية فاقدة لكل سيادة، محرومة من أي موارد، ومن دون أي حق للاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم".

وكان الردّ الأوروبي والذي تمثّل في تصريح حاسم للسياسي الإسباني الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل بأنه: لا بديل عن حلّ الدولتين؛ وفي 19 مايو/أيار 2020 طالب الاتحاد الأوروبي بأغلبية أعضائه (25 من أصل 27) الحكومة الإسرائيلية الجديدة بعدم تنفيذ أية مشروعات "ضم".

تبيّن للأوروبيين في مؤتمر ميونيخ للأمن القومي أنهم غير قادرين على مواجهة التحديات بمعزل عن الولايات المتحدة

نعم التزمت أوروبا، ولفترة طويلة، بموقفها حيال القضية الفلسطينية، إلا أنها في ظل مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية الممتدة منذ 2008، وهجمة الجائحة الفيروسية وجدت نفسها مطالبة بالتصدي لأربعة مستجدات في وقت واحد وذلك كما يلي: أولًا: سياسة "التملّص الأمريكي" التي أقرّها "ترامب" فترة رئاسته. وهو "التملّص" الذي أوجد نوعًا من الشرخ في العلاقة التاريخية بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ما أثّر على حلف الأطلسي. ثانيًا: "التوسّع الروسي" نحو المناطق الحيوية التي تمثّل بؤرًا استراتيجية تؤمّن مصالحه النفطية والغازية والعسكرية في إطار تمسّك روسيا بالسيطرة على دول في الجنوب الأوروبي لتمثّل له درعًا ومنظومة لمشروعه القومي الإمبراطوري البوتيني الجديد، وثالثًا: "التمدّد الصيني" الاقتصادي المهول العابر للقارات بنعومة شديدة. ورابعًا: "الداخل الأوروبي المأزوم" المتمثّل في الحركات المواطنية المتمدّدة القاعدية المطالبية/الاحتجاجية.

وفي ظلّ الانشغال الأوروبي عمد نتنياهو - الذي لطالما لم يعجبه الإجماع الأوروبي ضد المشروعات الإسرائيلية الجائرة - على استثمار رئاسة ترامب، فأعلن عن نيّته "ضمّ مناطق الضفة الغربية" في يوليو 2020. وقد بارك وزير الخارجية الأمريكي، آنذاك، ما أعلنه نتنياهو كما بارك حقّ التوسع في ضمّ الأراضي بحسب ما ترى الدولة الإسرائيلية. وخلال هذه الفترة بدأ الحديث عن صفقة القرن التي كانت تعني ليس قطع الطريق على حلّ الدولتين وإنما إعادة النظر، أساسًا، في وجود دولة فلسطينية.

ومع بداية 2022، تبيّن للأوروبيين - تحديدًا في مؤتمر ميونيخ للأمن القومي - أنهم غير قادرين على مواجهة التحديات بمعزل عن الولايات المتحدة الأمريكية فيما وصف "بالعجز" Helplessness؛ بنصّ التعبير الذي ورد في التقرير السنوي للمؤتمر، ومن ثم تمّ التأكيد على ضرورة إعادة اللحمة للعلاقة الأوروبية الأمريكية. ويشار هنا إلى أنّ الأزمات الجيوسياسية التي حظيت بالاهتمام الفوري هي: الأزمة الأوكرانية الروسية. والأزمة المالية ومنطقة الساحل الأفريقي. ومحاولات زعزعة الاستقرار في منطقتي القرن الأفريقي والخليج العربي والبحر الأحمر.

هناك "ترتيب ما" فوّضت بموجبه أوروبا إسرائيل تصفية القضية الفلسطينية

ويُلاحظ مما سبق أنّ ملف الشرق الأوسط أو الصراع العربي الفلسطيني لم ينل أيّ اهتمام. وتأكد هذا التوجه فيما عُرف مؤخرًا بوثيقة: "المفهوم الاستراتيجي Strategic Concept؛ التي صدرت عن "الناتو" والتي حدّدت دور "الناتو" المستقبلي فيما يلي: حدّدت الوثيقة دور الناتو المستقبلي في "مواجهة التهديد المستمر لكلّ من: الإرهاب بجميع أشكاله وتجلياته، ولعدم الاستقرار السائد، والسلطوية المتصاعدة في أكثر من مكان. وإضافة لما سبق تشير الوثيقة إلى مواجهة تزايد التنافس الاستراتيجي في العالم.

مما سبق أتصوّر أنّ هناك "ترتيبًا ما" فوّضت بموجبه أوروبا إسرائيل إدارة القضية الفلسطينية - أو للدقة تصفيتها - بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأمريكية. نعم قد تكون هناك بعض الأصوات الأوروبية تعترض على ما يجري في غزّة، ولكن أوروبا الرسمية كما بدا في جلسة مؤتمر السلام تركّز على ما جاء في رؤية الناتو لمواجهة الإرهاب من جانب، ومجابهة التنافس الاستراتيجي المتمثل في الصين وروسيا، ومن هنا كان ربط وزير الدفاع الأمريكي - من منصة الناتو - بين غزّة وأوكرانيا. كذلك تأكيد بايدن بأنّ: "انتصار إسرائيل وأوكرانيا ضرورة لأمننا القومي" (23 أكتوبر الماضي)، ومن ثم "التغطية" على الممارسات الإسرائيلية الوحشية في غزّة بالمطلق، والتعمية عن الأفعال الإجرامية في الضفة الغربية... وبالنتيجة إطلاق يد إسرائيل التوسّعية عبر التدمير.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن