تضاعفت تداعيات تغيّر المناخ بشكل كبير منذ أن فرضت إسرائيل إغلاقًا وحصارًا استعماريًا استيطانيًا على قطاع غزة من 2007 وحتى الآن، واستهدفت بشكل مباشر وغير المباشر المكوّنات البيئية داخل القطاع.
مؤخرًا، ومع الحصار الشامل والحرب المشتعلة في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، قد يشهد القطاع كوارث مناخية وبيئية غير مسبوقة، مما يعرّض حياة أكثر من مليوني فلسطيني للخطر.
فعليًا، من الصعب التنبّؤ بالاتجاهات المناخية في قطاع غزة بدرجة عالية من الدقة لعدم وجود بنية تحتية لجمع بيانات الأرصاد الجوية هناك، وهو ما يمثّل في حد ذاته مشكلة كبيرة. مع ذلك، فقد طوّرت دائرة الأرصاد الجوية الإسرائيلية (IMS) مؤخرًا تنبؤات مناخية تمتد حتى عام 2100 للارتفاع المتوقّع في درجة الحرارة، والظواهر الجوية المتطرّفة مثل موجات الحر والعواصف المطيرة، وأنماط هطول الأمطار المحتملة.
تستند هذه التنبّؤات، في جملة أمور، إلى محطات قياس قريبة من غزّة، والتي تعطي مؤشرًا لأنماط الطقس في القطاع المحاصر.
بحسب النماذج، في ظلّ كافة السيناريوهات، سيرتفع متوسّط درجات الحرارة في غزّة، خاصة في فصل الصيف، وأيضًا في فصلي الربيع والخريف. وسيصبح الصيف أطول على حساب الشتاء، وسيرتفع متوسّط درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية بحلول عام 2050.
تتميّز غزّة بخط وسهل ساحلي، وفي كلا المنطقتين سيكون هناك زيادة في عدد الأيام فوق 30 درجة مئوية بنسبة 60%، وزيادة في عدد الأيام فوق 34 درجة مئوية بمعدل ثلاثة أضعاف.
ومن المتوقع أيضًا أن تصبح موجات الحر في غزة أطول وأكثر شدة وتواترًا، وأن تأتي في أشهر وفترات لم تأت فيها من قبل.
علاوة على ذلك، يتوقع نظام الرصد الدولي انخفاضًا كبيرًا في متوسط هطول الأمطار في السهل الساحلي الجنوبي للقطاع، مما سيقلّل من إمكانية تجديد طبقة المياه الجوفية الساحلية بمياه الأمطار، وهو ما سيؤثّر بدوره سلبًا على الزراعة.
في الوقت نفسه، ستصبح الأمطار أكثر شدّة، فتتسبّب العواصف المطيرة الشديدة في إتلاف البنية التحتية الكهربائية والمائية المتداعية، وحدوث فيضانات كارثية، كالتي ضربت غزّة في يناير/كانون الثاني 2022، ودمّرت مئات المنازل وعطّلت أنظمة الصرف الصحي، مما أجبر مئات الأشخاص على النزوح.
من المتوقّع أيضًا أن يرتفع مستوى سطح البحر في المنطقة بمقدار 0.7 إلى 1.8 متر بحلول نهاية القرن، مما يؤدي إلى زيادة تغلغل مياه البحر في اليابسة بمقدار 0.5 كلم فوق معدل الاختراق الحالي الذي يتراوح بين 1-3 كلم، اعتمادًا على المنطقة.
واقع كارثي
في ظل الظروف المناخية الصعبة في قطاع غزة، أدى الإغلاق الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي للقطاع، طوال السنوات الماضية، ولا يزال يؤدي حتى الآن، إلى إعاقة القدرة على تطوير مشاريع استراتيجية تهدف إلى الحفاظ على البيئة وتلبية الاحتياجات المتنوّعة للسكان في وقت تشتد فيه عواقب تغيّر المناخ.
ويُظهر بحث أجراه مايكل ماسون، مدير مركز الشرق الأوسط في كلية لندن للاقتصاد، دور الحرب والصراع في غزّة كتهديد مضاعف لتغيّـر المناخ، ما سيجعل آثاره أكثر خطورة.
على وجه التحديد، يؤدي الاحتلال العسكري الإسرائيلي بالفعل إلى تفاقم نقص الموارد المرتبطة بالمناخ بالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. ويقول البحث إنّ الحكومة الإسرائيلية تشرف على نظام طبقي للحقوق والوصول، يتجلّى بشكل أوضح في حالة الماء، مع تخصيص ما يقرب من 80% من موارد المياه الجوفية المشتركة في فلسطين للاستخدام الإسرائيلي، بموجب اتفاقيات أوسلو.
يزداد الظلم المائي بشكل أكبر في قطاع غزة الذي تضاءلت فيه قدرة السكّان على الوصول إلى مياه الشرب الكافية والآمنة.
يشير البحث أيضًا إلى أنّ 97% من المياه التي تضخّ من طبقات المياه الجوفية الساحلية في غزّة ملوّثة ولا تلبّي معايير الجودة التي وضعتها منظمة الصحة العالمية، وذلك بسبب الهجمات العسكرية المتكرّرة ضد القطاع، والتي تستهدف مرافق المياه والصرف الصحي بشكل عشوائي.
قد تكون ندرة المياه المتزايدة في غزّة قاتلة للكثيرين، كما تُعدّ المياه الملوّثة من أبرز الأسباب لوفيات الأطفال في القطاع. كما يسيطر الجيش الإسرائيلي أيضًا على الموارد التي تدخل إلى القطاع وتخرج منه، ويحظر العديد من العناصر الأساسية لبناء البنية التحتية للمياه باعتبارها مواد خطيرة.
أدى تزايد محطات معالجة مياه الصرف الصحي وشبكات المياه غير الصالحة للعمل، إلى ضخ مياه الصرف غير المعالجة إلى البحر، مما تسبّب في تلوّث في أكثر من 70% من ساحل البحر بغزة.
الطاقة والزراعة
عانى القطاع من أزمة كهرباء طويلة الأمد ناجمة عن الهجمات المتكرّرة على محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة، والحظر المفروض على دخول الوقود، وعرقلة دخول المعدات اللازمة لتطوير قطاع الطاقة.
ومع الطقس المتطرّف بسبب تغيّر المناخ، ستضرّ موجات الحر بالحياة الأساسية والنشاط الاقتصادي، مما يهدّد معظم سكّان غزّة، الذين يفتقرون إلى أجهزة تكييف الهواء، ويزيد الطلب على التبريد، الذي سيصبح صعب المنال بسبب حالة البنية التحتية والنظام الكهربائي المتردي.
كما ألحقت المتفجرات التي سقطت على غزة في عام 2014 أضرارًا بالتربة وخفّضت الإنتاجية الزراعية، وفي الوقت نفسه، يمنع الجيش الإسرائيلي سكّان قطاع غزة من استخدام الأراضي المجاورة للسياج العسكري الإسرائيلي، والتي تشكّل 20% من الأراضي الصالحة للزراعة في غزة.
على جانب آخر، تسبّبت تسوية الأراضي الزراعية الفلسطينية وتجريفها بواسطة الجرافات الإسرائيلية، في إلحاق ضرر شديد وخطير ببيئة القطاع.
وتسبّب استهداف جيش الاحتلال لخطوط تجميع مياه الأمطار في حدوث فيضانات أدت إلى جرف التربة والمحاصيل في بعض مناطق القطاع، وارتفاع منسوب المياه في الطرق والمنشآت العامة والخاصة، ما يزيد من احتمال انتشار الأوبئة والأمراض.
وفي المقابل، تواصل السلطات الإسرائيلية منع دخول صخور "كاسر الأمواج" من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، الضرورية لمنع تآكل السواحل الناتج عن ارتفاع الأمواج المتزايد الذي قد يزيد من خطر حدوث فيضانات كارثية.
بالإضافة إلى ذلك كلّه، أدى استمرار إسرائيل في تخزين مياه الأمطار عبر السدود الاصطناعية إلى حدوث تغيّرات بيئية أثّرت على النباتات والأشجار الموجودة على ضفاف الأودية وتسبّبت في هجرة الطيور البرية.
الحرب الأخيرة تضاعف الخطر
ويقول تقرير صادر عن مرصد الصراع والبيئة البريطاني إنّ الحروب لها تأثير مباشر على تغيّر المناخ من خلال زيادة انبعاثات الكربون وتدمير البنية التحتية. إذ تتسبّب الحروب والصراعات المسلّحة في تدمير مخازن الكربون الطبيعية، مثل الغابات والأشجار، أو التي يصنعها الإنسان، كالبنية التحتية للطاقة وآبار النفط، ما يؤدي لإطلاق مئات الملايين من الانبعاثات الكربونية.
وقد ألقت إسرائيل في الحرب الأخيرة فقط، آلاف الأطنان من قنابل وصواريخ ومتفجرات تحتوي على مواد سامة وخطرة، فضلًا عن الرش الجوي للمبيدات الحشرية الكيميائية والقصف الدوري للمناطق المتاخمة للسياج المحيط بغزة وإسرائيل، ومناطق أخرى.
ويمكن أن يؤدي القصف المستمر والحرائق المتواصلة إلى إطلاق ملايين الأطنان من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ما يفاقم أزمة الاحترار العالمية.
تقول أميرة الخلايلي، أستاذ الاقتصاد البيئي بجامعة ريو دي جانيرو: "الحروب المتكرّرة التي شهدها القطاع في السنوات الأخيرة، لها تأثير مباشر على تدمير النظم البيئية، خاصة عند استخدام الأسلحة الكيميائية المحرمة دوليًا، مثل الفوسفور، المستخدم في الحرب على غزة".
وتضيف الخلايلي لـ"عروبة 22": "هذه الأسلحة الفتّاكة تسبّب كارثة بيئية على مستوى العناصر الأساسية للبيئة، فرياح الصحراء تحمل غاز الفوسفور ليترسّب في التربة أو في أعماق الأنهار والبحار وفي الكائنات البحرية مثل الأسماك، مما يهدّد سلامة البيئة".
وأقرّت "هيومن رايتس ووتش" بأنّ إسرائيل تستخدم الفسفور الأبيض، المحظور دوليًا وفق اتفاقية جنيف، في قصف مناطق مكتظة بالسكان في قطاع غزة، سواء في الحرب الأخيرة أو التي سبقتها.
تُعرّف الاتفاقية "الفوسفور" بأنه سلاح حارق لجسم الإنسان، ولا يترك وراءه سوى العظام، واستنشاقه لفترة قصيرة يهيّج القصبة الهوائية والرئتين، بينما يؤدي استنشاقه لفترة طويلة إلى كسر الفك وإحداث إصابات بالفم. "كما تتوافر لدينا أيضًا أخبار عن انتشار عدوى المكورات الرئوية في غزّة، دون توفير الرعاية الصحية والنظافة الكافية لمكافحة هذا الطاعون القاتل"، تتابع الخلايلي، مضيفة: "غزّة تحت الحصار، بلا ماء ولا طاقة ولا طعام ولا طريق للهروب، وما يحدث هناك هو مثال صارخ على أزمة معقّدة من منظور إنساني وبيئي وصحي ومناخي، فالقطاع سجن مفتوح، ما يجعله أكثر عرضة للخطر عندما يحدث تغيّر مفاجئ في المناخ، لأنه مكتظ بالسكان، وملايين الأشخاص يعيشون في مساحة صغيرة".
باختصار، تحكم إسرائيل على من يتبقى على قيد الحياة من سكان غزة، بالتجمّد في الشتاء والإجهاد الحراري في الصيف، وتقييد ضخّ المياه، وتصريف مياه الصرف الصحي، وضرب الزراعة والصحة العامة، والحد من جميع الخدمات الأساسية، بما في ذلك الخدمات الطبية، وسط انتشار الأمراض والوبئة بسبب الضرر البيئي المتفاقم.
وفي حال نفّذ جيش الاحتلال خطته المتوقعة لاجتياح القطاع بريًا، فستكون غزّة على موعد مع كارثة إنسانية، وأخرى بيئية ومناخية وصحية غير مسبوقة.
(خاص "عروبة 22")