يواجه الناس في قطاع غزّة، تحديات كثيرة، تلقي بثقلها على حياتهم اليومية، بدءاً بممارسات الإحتلال من حصار وعدوان، مرورًا بالضغوط السياسية الناتجة عن الخلافات والصراعات السياسية بين فصائل غزة والسلطة في رام الله، وصولًا إلى الأزمات المعيشية والاقتصادية والمالية المتلاحقة، ما خلق واقعًا خانقًا على الغزاويين فرض على العديد منهم النزوح من القطاع، بهدف الدراسة أو العمل أو العلاج أو طلبًا للجوء الإنساني إلى دول الجوار، كمصر، إما للاستقرار فيها أو للعبور منها نحو وجهات أخرى مرجوّة لدى كثير من أهل القطاع، ومن بينها تركيا والدول الأوروبية.
"بشر درجة ثانية"
يقول سالم (إسم مستعار - في العقد الرابع من العمر)، وهو من مواليد غزّة ويقيم راهنًا في إحدى الدول الأوروبية: "لم أكن أرغب بترك عائلتي والمغادرة، لكن تبدّلت الأحوال في العام 2019، حين أُصبت بشظايا قذيفة مدفعية، استُشهد فيها اثنان من زملائي... وما عدتش وقتها نفس الشخص، فقررت سافر".
"كان ما في أمل أعيش، دماغي كان العضو الوحيد الشغّال في جسمي"
سالم الذي يعمل في مجال الصحافة والتوثيق منذ العام 2008، تردّد في بادئ الأمر باتخاذ القرار، خصوصًا أنه اختبر تجربة الغربة مرّات سابقة، أثناء تغطيته للحروب والنزاعات في المنطقة، ولكن بفارق بسيط، حسبما يقول: "كنت أعود بسرعة خوفًا على زعل أمي، وحين استُشهدت، قرّرت البقاء في غزّة كرامة لزعلها".
ويروي سالم لـ"عروبة 22" تفاصيل قصته مع النزوح من القطاع: "فور إصابتي بالشظايا، دخلتُ في غيبوبة لمدة 96 يومًا"، وأخبر الأطباء عائلة سالم آنذاك، بضرورة فصله عن أجهزة الإنعاش باعتبار "كان ما في أمل أعيش، دماغي كان العضو الوحيد الشغّال في جسمي"، لكنه استفاق من غيبويته وعاد إلى الحياة، ليقضي بعدها مدة لا تتجاوز شهرًا واحدًا في غزة، قبل أن يغادر الى أوروبا بعقد عمل أمّنته له صحافية أوروبية في إحدى المؤسسات الإعلامية الكبرى هناك.
"فكرة إنو أولادي بعاد عني عاملتلي حرب نفسية"
انتقل سالم (أب لثلاثة أولاد) وحيدًا إلى مكان إقامته الجديد، من دون أولاده. حياة جديدة ومختلفة، ولكنها ليست سعيدة، خصوصًا وأنهم في أوروبا "يعاملوننا نحن العرب كأننا بشر درجة ثانية (...) حياتنا هنا تخلو من أي علاقات اجتماعية وصرنا نروح عند "دكاترة نفسيّين" بسبب اللي عم نعيشه".
مع كل عدوان جديد على غزة يعيش سالم تفاصيل المرحلة، لكن من دون متابعة الأخبار ومشاهد القصف، "فأتواصل يوميًا مع عائلتي، أطمئن إلى أحوالهم وأتأكد من أنهم لا يزالون على قيد الحياة، ومن ثمّ أقفل الخط، لا أريد أن أتذكر مشاهد الحرب، والأصعب أنه ممنوع إحكي وأعبّر أو أتحدث عن هذا الموضوع، بضلني حابسو جوّاتي" حسبما يتحسّر. وعند سؤاله عن أكثر ما يشتاق إليه في غزّة، يجيب: "مفتقد كتير قعدتي مع جيراني وعائلتي، فكرة إنو أولادي بعاد عني عاملتلي حرب نفسية (...) أمنيتي إرجع، بس كيف ممكن ألاقي عمل بحال رجعت؟، كيف ممكن أمّن لقمة عيش أولادي؟ وأنا مسؤول عن اثنين من إخوتي أيضًا كونهما لا يعملان منذ تخرجهما من الجامعة هناك".
في حياة سالم، توالت قصص الموت، إذ استشهد والده في العام 2014، وبعده والدته في 2016، وأخته العام الماضي، وأمثاله كثر، نزحوا هربًا من ظروف الحرب والتضييق وبحثًا عن حياة أفضل، بعضهم يفضّل عدم الحديث إلى العلن، أو ذكر اسمه، وبعضهم الآخر يتحدث بحذر شديد، خوفًا من تبعات أي كلمة يقولونها وقد تتسبب بتشريدهم مرة أخرى.
"أنا جريحة حرب"
غزّاويون كثر أصيبوا إصابات بالغة جراء الإعتداءات المتكررة على قطاع غزة، فتبدّلت حياتهم. ومن بين هؤلاء "آمال" التي أصيبت في العام 2014، أثناء العدوان الإسرائيلي على القطاع، الأمر الذي استدعى بتر قدمها هي وشقيقتها، وهما تقيمان اليوم في ألمانيا منذ العام 2019.
آمال (لاجئة في غزّة منذ العام 1996 من أم لبنانية)، تطلّب وضعها الصحي السفر والعلاج في الخارج، أما بقية أهلها فلا يزالون في القطاع، وتقول لـ"عروبة 22": "أنا جريحة حرب. إصابتي كانت في مختلف أنحاء جسدي، بُترت إثرها إحدى قدماي (...) والله صعب جدًا كيف مر عليّ العدوان الأخير، خصوصًا أنّ الأمور ممكن تدهور أكثر في أيّ لحظة".
صراع مكبوت بين استحضار الماضي الأليم في غزّة... والتأقلم مع الغربة
تعتذر آمال عن عدم إضافة أيّ تفاصيل أخرى، وتفضّل عدم الإستفاضة في الكلام عن حياتها ومشاعرها والصعوبات التي تواجهها في المهجر، فتبدّل الحديث، لتخبرنا عن والدها، الصحافي والكاتب، الّذي عمل وتعاون مع عدد كبير من الصحف المحلية والأجنبية، منها "النهار" اللبنانية، وعن كتابه الّذي توفي قبل أن ينجزه، فتعبّر عن عميق حزنها إزاء ذلك... ودائمًا في صوتها حنين جارف للعائلة والوطن، وصراع مكبوت بين استحضار ذكريات الماضي الأليم في غزّة... والتأقلم مع واقع الغربة وعيش الحاضر والمستقبل بحرية وسلام في ألمانيا.
(خاص "عروبة 22")