صحافة

رسالة "تاريخية وروحانية" ملغومة

عبدالله السويجي

المشاركة
رسالة

يقوم قادة إسرائيل بين فترة وأخرى بإلقاء "قنابل" كلامية تجريبية وانتظار ردود الفعل العربية أولاً ثم العالمية، وهذه القنابل ما هي إلا خطط وأفكار واستراتيجيات تؤمن بها شريحة واسعة من القيادات اليمينية أو المعتدلة أو الدينية المتطرفة، وهي معروفة لكل متابع للطموحات الإسرائيلية، وهي طموحات عقائدية دينية، أهدافها سياسية توسّعية، يعتقد القادة أنها قابلة للتحقيق، وإلا ما كانت تلك البالونات الاختبارية والقنابل الكلامية التجريبية، فهي بالتأكيد ليست للمناورة السياسية ولكنها لتذكير المجتمع الإسرائيلي بها، وخاصة الأجيال الصاعدة.

وعلى سبيل المثال تم في السنوات الماضية إلقاء قنابل كلامية تتعلق بتهجير فلسطينيي الداخل إلى الدولة الفلسطينية، وذلك لتنفيذ قومية الدولة، ثم قنابل أخرى تتعلق بعدم الموافقة على حل الدولتين، ثم بشأن ضم الضفة الغربية، والآن احتلال قطاع غزة بالكامل، وتفاصيل تتناقلها وسائل الإعلام بشأن مستقبل القطاع، اقتصادياً وسياسياً. وفي الواقع، فإن إسرائيل ماضية في تنفيذ "الرؤية" التي تحدث عنها بنيامين نتنياهو، ونعني المفردة، وما يتصل بها من خطط، ورؤية تشمل كل تلك القنابل التي أُلقيت في وجه الفلسطينيين والعرب والأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويبدو أنهم يقيسون مستوى ردة الفعل، فيصمتون ثم يطلقون غيرها.

أحدث تلك القنابل الكلامية أو بالونات الاختبار هي ما صرّح به نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل وتأييده لـ"رؤية إسرائيل الكبرى"، وهذه المرة شعر نتنياهو بأنه "يحمل رسالة تاريخية وروحانية تتوارثها الأجيال"، وكشف عن تلقّيه خريطة لإسرائيل تضم أجزاءً من الأراضي الفلسطينية المحتلة والأردن ولبنان وسوريا ومصر، وأنه موافق "بشدّة" على هذه الرؤية. وهذه الموافقة تنسجم مع الخرائط التي تعرضها وزارة الخارجية الإسرائيلية على منصاتها الرسمية، ما يعني أنها ليست بالونات في الهواء وليست مناورة سياسية تفاوضية، إنها قناعة مؤسساتية حكومية راسخة. وفي الواقع، تعلم القيادة الإسرائيلية على وجه الدقّة ردود الأفعال، ورغم ذلك، تقوم بدراستها، وأحياناً، الرد عليها.

وكان من الطبيعي أن تدين دولة الإمارات العربية المتحدة وتستنكر بأشد العبارات تصريحات نتنياهو، بل إنها رفضتها رفضاً قاطعاً ووصفتها بتصريحات استفزازية، وتعدّياً سافراً على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. ورفضت وزارة الخارجية الإماراتية أي تهديد لسيادة الدول العربية، ودعت إلى "ضرورة توقف متطرفي الحكومة الإسرائيلية عن إطلاق التصريحات أو القيام بأعمال تحريضية، وكذلك وجوب وقف كل الخطط الاستيطانية والتوسعية التي تهدد الاستقرار الإقليمي، وتقوّض فرص السلام والتعايش في المنطقة وبين شعوبها". ووقفت المملكة العربية السعودية الموقف ذاته فاستنكرت موافقة سلطات الاحتلال الإسرائيلية على بناء مستوطنات في محيط مدينة القدس المحتلة. وينبع هذا الانسجام في موقفي الإمارات والسعودية انطلاقاً من الوقوف إلى جانب حق الشعب الفلسطيني لبناء دولته المستقلة. وحتى نكون موضوعيين، فقد ردت كل من الأردن ومصر ولبنان وسوريا برفض هذه (الرؤية) الإسرائيلية.

إن ما يعطي تصريح نتنياهو خطورة من نوع خاص قوله إنه يشعر، وهو مصطلح زئبقي، بأنه "يحمل رسالة تاريخية وروحانية تتوارثها الأجيال". وإذا كنا نفهم الرسالة التاريخية ونعدّها للاستهلاك الإعلامي، إلا أننا لا نستطيع المرور مرور الكرام على "الرسالة الروحانية"، لأنه يقصد بكل بساطة الرسالة العقائدية الدينية، وتطبيق ما ذُكر في توزيع الأراضي على الأتباع، وهذا المنطق يفتح الأبواب على مصاريعها للجدل الديني المتطرف، ويحوّل الصراع في المنطقة إلى صراع ديني دموي، ويطيح إلى غير رجعة بالمبادئ الإبراهيمية، التي تروّج لها إسرائيل ذاتها، أي تطيح بمبادئ التسامح والاعتراف بالآخر والتسامي ومبادئ السلام، وتعيد الصراع إلى أوله، أي إلى ما قبل ألف عام ويزيد، وفي طريقها، ستخسر المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات الحديثة والقديمة.

ونحن هنا لا ننصح قادة إسرائيل ولا نحذّرهم، إنما نتعامل مع المنطق السياسي، والسيناريوهات المحتملة التي قد تكون أكثر تعقيداً وتدميراً مما نظن، وباختصار فإن سياسة البقاء للأقوى، وقانون الغاب، ستعود، وقد يزدهر التطرف من جديد، وما يتبعه أو يدور في فلكه من إرهابيين ومنتهزي الفرص وتجار الحروب والقطط السمان وغيرهم. لقد قدّم العرب عروضاً كثيرة لإسرائيل لتصبح جارة مقبولة تعيش بسلام، وتصريحات نتنياهو تنسف تلك العروض من جذورها، بل وتنسف كل نوايا السلام وحل الدولتين، وكل الأحلام التي يحلم بها القادة من الطرفين إضافة إلى الأجيال الصاعدة، وهذه الأخيرة، وبدلاً من نشر ثقافة السلام بين ظهرانيها، فإن نتنياهو يوجه إليها "رسالة تاريخية"، أي إنه يدعو الأجيال الصاعدة في المجتمع الإسرائيلي إلى الاستعداد لتنفيذ (الرؤية) والرسالة الروحانية، وهذا يخالف خطاب السلام وأدبيات التربية والتعايش.

السؤال المهم الذي يمكن لنا طرحه هو: هل لدى العرب "قنابل كلامية" يمكن إلقاؤها في الساحة السياسية، فيها شيء من التهديد والوعيد والتلويح بعقوبات ما؟ هل يمكن الرد على نتنياهو بطريقته ذاتها، وطرح الحق التاريخي للفلسطينيين في فلسطين مثلا؟ إن خطوة مثل هذه تتطلب رؤية عربية واحدة، واستراتيجية واحدة تلوّح بالحق الفلسطيني، وأعتقد أن تصريح نتنياهو يستحق أن تُعقد له قمة عربية على مستوى الرؤساء والملوك. نأمل ذلك..

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن