لقد اعترفت لجنة نوبل للباحثة الأمريكية كاترين غولدن أنّ أعمالها ساهمت في تقدّم معرفتنا بأسباب دخول النساء للجامعات ولسوق العمل بداية من الستينات في الولايات المتحدة. ودخول المرأة لسوق العمل لم يكن أمرًا بديهيًا حيث كانت كل القيود تقف ضد النساء وكانت هناك حركات نسائية مضادة لحقوق النساء في الولايات المتحدة. كيف تمّ ذلك إذن؟ كيف تمكنت النساء الأمريكيات من دخول سوق العمل؟ وما هو دور حبوب منع الحمل في هذه القضية النسوية؟
الأكيد أنّ الكثيرين من المهتمين بقضايا المرأة كانوا يجهلون أعمال كاترين غولدن في اقتصاديات النساء لكنهم يعرفون أنه في سنة 1875م في الولايات المتحدة كان هناك القليل من النساء في الجامعات وفي الوظائف المهنية ولم يكن للنساء حق التصويت.
لقد لعبت الناشطة النسوية ماكروميك وهي ثاني امرأة تخرجت من الجامعة في 1904 زمن إدارة الرئيس ولسن في 1920 دورًا مهمًا في توعية النساء بضرورة النضال من أجل الحق في التصويت، لكن جهود الحركة النسوية لم تكن هي العامل الحاسم، إنما العامل الأكثر تأثيرًا كان اكتشاف واستخدام حبوب منع الحمل. إليكم القصة الكاملة.
قصة حقوق المرأة بدأت في السنوات 1950 مع اكتشاف حبوب منع الحمل في المختبرات الأمريكية كعقار جديد. ورغم أهمية هذا الاكتشاف الصيدلاني لحبوب منع الحمل بالنسبة للنساء إلا أنّ استخدامها كان يخضع للحظر القانوني، لقد كان بيعها أو شراؤها يؤدي إلى السجن مباشرة فلم تكن محل ترخيص تجاري بعد، لقد كان وضع حبوب مراقبة الحمل مثل حبوب المخدرات المحظورة اليوم.
لم يرفع الحظر على حبوب مراقبة الحمل إلا في السنوات 1960 وفي بعض الولايات فقط، بينما بقيت 24 ولاية أمريكية تحظر بيع تلك الحبوب، وبعض الولايات اختارت أن ترخص بيعها للأزواج فقط.
بدأت النساء بالدراسة الجامعية والمشاركة بالوظائف المهنية في الولايات التي رفعت الحظر عن "مراقبة الحمل"
في بداية سنوات 1960 انطلق جدل وطني أمريكي حول استخدام تلك الحبوب وانقسم الأمريكيون بين مؤيد لحظرها خوفًا من عدم السيطرة على حياة النساء حيث كان يعتقد أن تلك الحبوب ستعطي حرية جنسية وإنجابية أكبر للنساء مما يُشكل عامل تفكيك للأسرة الأمريكية حيث كان يتوقع زيادة نسب الطلاق وزيادة عدد الأطفال خارج الزواج في حالة رفع الحظر عنها. تلك كانت حجج المحافظين من الرجال والنساء. بينما تولّت الحركة النسوية رفض هذه الحجج ودعت للترخيص بتلك الحبوب لأنها في صالح تحرير النساء.
وفي الأخير تدخلت المحكمة العليا الأمريكية في عام 1965 من أجل حسم الجدل حول قانونية حبوب مراقبة الحمل قائلة إنّ ما يقع بين الأزواج داخل غرف نومهم هو أمر لا يخص الحكومة وإنما يدخل في الحياة الخاصة للأزواج وليس ذات تأثير في الحياة العامة التي تعني كل المواطنين.
وبدأت تأثيرات قرار المحكمة العليا بالظهور تدريجيًا حيث بدأت بعض الولايات ترفع الحظر بالتدريج عن بيع الحبوب وبدأت تظهر الانعكاسات الإيجابية لهذا القرار على النساء حيث بدأت النساء بالتقدّم إلى الدراسات الجامعية وبدأت مشاركة النساء في الوظائف المهنية في التزايد وذلك في الولايات التي رفعت الحظر. وهذا ما اكتشفته الباحثة كاترين غولدن، فالولايات التي بدأت في الترخيص للحبوب بدأت فيها نسب مشاركة النساء في التعليم العالي في الارتفاع ومعها نسب مشاركة المرأة في سوق العمل. فوقع انفجار في نسب الخريجات من كليات القانون والطب والأعمال وتضاعفت تلك النسب في السنوات 1980 فوصلت النسب إلى 50 بالمئة من المشاركة النسوية في بعض الكليات المهنية.
إنّ الآلية التي أثّرت بها تلك الحبوب على أوضاع النساء كانت بسيطة وغير مفهومة في آن، حيث سمحت الحبوب للنساء بالتحكّم في الأوقات التي يخترن فيها أن يقرّروا الحمل من أزاوجهن وهذا كان له أثر كبير على حياة النساء. كما ساهمت تلك الحبوب في خفض تكاليف الفرص البديلة للدراسة والعمل. فلم تعد النساء مخيّرات بين الزواج أو التعليم، أو الزواج أو العمل.
النمو يسهم بتخفيض تكاليف التكنولوجيات التي تساعد النساء العربيات على التوفيق بين الحياة الزوجية والدراسة والعمل
أصبح بمقدور النساء أن يكنّ زوجات وطالبات جامعيات في آن، أو زوجات وعاملات مهنيات في الوقت نفسه. كما أصبحت قرارات النساء بفضل تلك الحبوب أقلّ دراماتيكية، لم تعد النساء في حاجة للتضحية بالدراسة أو العمل من أجل الحياة الزوجية والأطفال.
الدرس المستفاد هنا لصالح قضايا حقوق النساء في العالم العربي هو أنه يجب أن يكون هناك نمو اقتصادي يسهم في تخفيض تكاليف الحصول على التكنولوجيات التي تساعد النساء على التوفيق بين الحياة الزوجية والدراسة والعمل. لقد كان لاستخدام حبوب مراقبة الحمل من قبل المرأة العربية دور إيجابي في تنظيم الإنجاب داخل الأسرة.
فلننظر مثلًا إلى دور التكنولوجيات المنزلية كيف جعلت حياة النساء العربيات أسهل مقارنة بالماضي. لنأخذ مثال دور غسالات الملابس والأواني وآلات الطبخ، ونتأمّل كيف جعلت حياة النساء المتزوجات أقلّ تكلفة، إنهن أصبحن بفضل هذه التكنولوجيات يجدن الوقت أكثر للقيام بأشياء أكثر أهمية ومفيدة في حياتهن. فمن المكلف جدًا لامرأة شابة طموحة تريد التعليم والعمل أن تمضي كل وقتها في تنظيف الملابس والأواني كما كان حال الأمهات والجدات في الماضي أو أن تضحي بالدراسة أو العمل لأنها لا تعرف كيف ومتى تقرّر أن تكون بفترة الحمل.
نزعم أن مثل هذه المبادرات النسوية مهمة لإسماع أصوات النساء المحرومات من حقوق المواطنة الاقتصادية والسياسية، لكن الأهم من كل ذلك هو تشجيع النمو الاقتصادي في العالم العربي حتى تستفيد النساء من ثمار ذلك النمو في شكل تكنولوجيات رخيصة وفعّالة تسمح بتحرير وقت النساء وجعله أقل كلفة حتى تستطيع المرأة العربية أن توفق بين طموحاتها في الدراسة والعمل والزواج ورعاية الأطفال.
(خاص "عروبة 22")