لكنّ رأسمالية الكوارث، جعلت من هذا الجشع، نموذجًا إرشاديًا أو "براديغم" لحضارة بكاملها؛ حيث أصبحت ويلات الحروب ومصائب البشرية، مصدرًا لبعض الدول والشركات الكبرى العالمية، لكسب الأموال وانتزاع الفوائد المادية وتحقيق المصالح وتكريس الهيمنة الاقتصادية.
ولقد كتبت نعومي كلاين، عن صعود رأسمالية الكوارث، في كتابها الشهير "عقيدة الصدمة"، فانتقدت فيه "مبدأ الصدمة" الذي صاغه الاقتصادي الأمريكي الشهير "فريدمان" في مقاله الافتتاحي في صحيفة "وال ستريت" حول فيضانات "أورلينز" التي حطّمت المنازل والمدارس الحكومية، داعيًا إلى استغلال هذا الوضع الكارثي، وتبنّي خطة راديكالية في مجال سياسة التعليم، وتمكين القطاع الخاص من الاستيلاء على هذا المجال، وأصبح بذلك فريدمان أستاذًا لعدة حكومات ومؤسسات وشركات في اعتماد نهج استغلال الأزمات لتحقيق المكاسب الاقتصادية والسياسية.
اعتبرت نعومي كلاين هذا التوجه استغلاليًا، بقولها: يمكن رسم هذه الغارات المنظّمة التي شنّت على القطاع الرسمي في أعقاب أحداث كارثية، إلى جانب التعامل مع تلك الأحداث كفرص تجارية مثيرة بالنسبة إلى السوق، باسم "رأسمالية الكوارث".
ويظهر جلياً بأنّ توسيع نطاق رأسمالية الكوارث، مرتبط بعولمة السوق الحرة، غير المقيّدة وغير المتبوعة بالمساءلة والمراقبة، كما أنّ استغلال الكوارث لتحصيل الأرباح، هو أمر مزمن منذ نشأة الرأسمالية نفسها.
شركات عالمية لا يهمّها مستقبل الشعوب العربية وإنما مصالحها الخاصة، وإن اقتضى الأمر زعزعة استقرار المنطقة
لكن كما يقول أنتوني لوينشتاين، في كتابه "رأسمالية الكوارث"، فإنّ "الرأسمالية المفترسة تتجاوز نطاق استغلال الكارثة؛ فالعديد من الأزمات المستمرة حاليًا يبدو أنّ الشركات هي التي أبقت عليها وأطالت أمدها، بهدف دعم وتشغيل صناعات لديها حصة مالية فيها. هذه الشركة شبيهة بالطيور الجارحة التي تتغذّى على جثة حكومة ضعيفة والتي بدورها لا بد أن تعتمد ــ على نحو متزايد ــ على القطاع الخاص لتوفير الخدمات العامة". وهكذا فإنّ رأسمالية الكوارث، انتقلت من مستوى استغلال الكوارث إلى صناعتها والتحكّم في مدّتها ونطاقها وإدارتها؛ فهي عقيدة يتبنّاها رجال السياسة ورجال الأعمال وكذلك مؤسسات دولية.
لم تسلم الشعوب العربية من تداعيات هذه العقيدة المدمّرة، وليس من المتوقع أن تسلم منها مستقبلًا، بسبب استفحال توغّل الليبرالية الجديدة في المنطقة العربية؛ وتحالف القطاع الخاص مع شركات عالمية لا يهمّها مستقبل الشعوب العربية وإنما مصالحها الخاصة، وإن اقتضى الأمر زعزعة استقرار المنطقة.
وتُعتبر المديونية من آليات استغلال أوضاع الشعوب والزجّ بها في دوامة الاقتراض والعجز عن السداد واللجوء إلى التنازل عن قطاعاتها الاستراتيجية للخوصصة التي تستفيد منها الشركات الكبرى؛ وقد بلغ حجم الديون العربية أكثر من 1.5 تريليون دولار سنة 2023، حسب بيانات صندوق النقد الدولي.
ومن المعلوم أنّ تأثير ثقل الديون على اقتصاديات الدول العربية، هو ليس فقط ضخمًا وكبيرًا وخطيرًا، وإنما هو مؤشر على "استعمار المستقبل العربي"، إذ ستعيق هذه الديون مسارات التنمية وكذلك ستبتلع مداخيل الموارد الطبيعية، من غاز وبترول ومعادن وكذلك مداخيل القطاعات الأخرى من سياحة وصناعة، بل جزءًا كبيرًا من الدخل القومي، والأخطر من ذلك ابتلاع مستقبل الأجيال العربية القادمة التي سترث الخراب والاستعباد إذا لم يتمّ تصحيح المسار والترافع عن حق هذه الأجيال في مجتمعات عربية مستدامة ومنفلتة من التبعية والخضوع لدوائر احتكار القرار الاقتصادي العالمي.
إنّ العجز عن الوفاء بسداد الديون، سيؤدي كذلك إلى تراجع التصنيف السيادي كما هو الحال بالنسبة لمصر ولبنان وغيرهما. وقد حذرت وكالة موديز للتصنيف الائتماني من مخاطر التقييم السيادي على مستقبل الدول الغارقة في المديونية. ولا يخفى على أحد أنّ مؤسسات التصنيف الائتماني المعروفة عالميًا، ليست محايدة بل تساهم بدورها في تعميق أزمة الدولة، وغالبًا ما تصدر تقاريرها باتفاق مع الدول المانحة من أجل ممارسة الضغط على الدول التي عليها سداد الديون والتي تكون مضطرة إلى تقديم مزيد من التنازلات وبيع قطاعاتها الاستراتيجية أو إشراك الجهات المانحة فيها، بشكل مجحف وغير عادل.
وهكذا تستغل الدول والجهات المانحة للقروض، أزمات الدول التي في حاجة إلى اقتراض مزيد من الأموال، لمواجهة آثار المديونية. وهذا أمر ليس بجديد، إذ سبق أن لجات دول استعمارية إلى آلية الإقراض للتحكّم في الدول الضعيفة في القرن التاسع عشر.
ولن يكون هناك مزيد من شراء السلم الاجتماعي بالدّين، لأنّ مستويات المديونية في العالم العربي أصبحت مخيفة، وخصوصًا بعد توالي الكوارث الطبيعية وغلاء المواد الغذائية وعدم التعافي من تداعيات جائحة كورونا. وتُعتبر رأسمالية الكوارث مسؤولة عن جزء مهم من هذه الكوارث الطبيعية بسبب أسلوب انتهاك قوانين الطبيعة وتبني نهج تدمير البيئة والإضرار بالنظام البيئي في عدد من دول العالم، ومنها الدول العربية التي تستقبل بعض الصناعات الملوّثة التي تواجه بمقاومة من طرف منظمات حماية البيئة في دول الشركات العالمية، إلى درجة البحث عن تصدير النفايات بكل أنواعها إلى الدول الفقيرة.
هناك إمكانية لتجديد الوعي بضرورة التكامل العربي لمواجهة الليبرالية المتوحّشة
إنّ رأسمالية الافتراس تحضّر للاغتيال الاقتصادي لعدد من الأمم ومنها بعض الدول العربية، التي تعاني أصلًا من سوء الحكامة والفساد واللامساواة وعدم ترشيد النفقات وعدم الاهتمام بالإبتكار والإبداع والتشجيع على المعرفة، والأخطر من ذلك تحالف بعض نخبها الاقتصادية والسياسية مع سدنة رأسمالية الكوارث من أجل الانقضاض على قطاعات رسمية وتحويلها إلى القطاع الخاص، منها التعليم والصحة وبالتالي التربّح على حساب معاناة الشرائح الاجتماعية التي لم تعد قادرة على ضمان عيشها.
وبالرغم من كون المؤشرات الاقتصادية لعدد من البلدان العربية، غير مبشّرة بالخير، فإنّ إمكانية الانفلات من رأسمالية الكوارث، ليس أمرًا مستحيلًا، فهناك إمكانية لتجديد الوعي بضرورة التكامل العربي لمواجهة هذا المد الكاسح لكهنة الليبرالية المتوحّشة.
ويتعيّن التفكير في تفعيل حقيقي لميثاق عربي للتضامن وكذلك ميثاق أخلاقي للممارسة الاقتصادية وتبني نهج صارم في تطبيق مقتضيات المسؤولية، وإلزام القطاع الخاص في العالم العربي باعتماد الاستثمار المتضامن وليس نهج الاستغلال الفاحش والمتحالف مع رأسمالية الافتراس.
(خاص "عروبة 22")