في اليوم الأوّل، حلّقت الأحلام الكبرى في سماء مدينة السويداء عند استقبال جمال عبد الناصر احتفالًا بالذكرى الثانية للوحدة المصرية - السورية. بدا المشهد ملحميًّا كما احتفظت به ذاكرة الكاميرات. مئات آلاف البشر من أهل المدينة والمناطق المجاورة زحفوا لاستقباله بالسيوف المشرعة وأسراب الحمام. طوال الوقت لم يتوقّفوا عن الهتاف والصراخ من القلب، كأنّهم في حلمٍ غير قابلٍ للتصديق.
نُصبت في ساحة "سلطان باشا الأطرش" منصة عالية وقف فوقها "عبد الناصر" خطيبًا. وقف بجواره مباشرةً الزعيم الدرزي العروبي سلطان باشا نفسه وثلّة من قيادات دولة الوحدة. يُلخّص الرجلان معاني كبرى تستعصي على الإنكار، أو النسيان. أحدهما، يرمز إلى فكرة العروبة والوحدة والتحرّر الوطني أكثر من أي رجل آخر في التاريخ العربي الحديث. والآخر، يرمز إلى إرادة القتال في أسوأ الظروف بقيادة الثورة السورية الكبرى، التي وصلت إلى ذروتها عام 1925 ضدّ المحتل الفرنسي قبل قرن بالضبط.
زاره "عبد الناصر" في بيته تقديرًا لدوره التحرّري التاريخي وصحبه معه إلى مكان الاحتفال الجماهيري. دعاه للحديث أولًا، لكنه اعتذر بداعي عدم إجادته الخطابة.
بتوصيف الكاتب الصحافي الكبير أحمد بهاء الدين لرحلات "عبد الناصر" إلى المدن السورية المختلفة فإنّها: "كانت حقًا شاقّة، كان استقبال الشعب لجمال عبد الناصر كالعادة أسطوريًا، ذهب إلى مناطق قال لنا أهلها إنّه لم يسبق أن زارها وكيل وزارة من دمشق العاصمة، وكانت التسهيلات في بعض تلك المدن التي لم يدخلها مسؤول واحد معدومةً تمامًا، لم تكن هناك ببساطة أماكن أمام رئيس الجمهورية العربية المتّحدة وصحبه من الوزراء والصحافيين المصريين والسوريين لا للمبيت ولا للمأكل ولا أي شيء على الإطلاق". المعاني غلبت أي مشقّة. إنّه الأمل في المستقبل، ولا شيء غيره.
لم تكن حماية الدروز هدفًا حقيقيًا لإسرائيل في فتنة السويداء المقصود فرض إرادتها على جميع الأطراف السورية
في اليوم الثاني، اختلفت الصور والأجواء في السويداء نفسها بدرجةٍ مفزعة.
بدت المحافظة الجنوبية ممزّقةً تمامًا تعصف بها الفتن الطائفية والاشتباكات الدامية بين مسلّحين من طائفة الموحّدين الدروز وميليشياتٍ بدويةٍ قريبةٍ من السلطة في دمشق.
بذريعة حماية الأقلية الدرزيّة، دخلت إسرائيل على خط الفتنة. كان ذلك إنذارًا بالسلاح لما أطلق عليه بنيامين نتنياهو: "الأمن بالقوة"، لا بالتفاوض، أو الاستجداء.
لم تكن حماية الدروز هدفًا حقيقيًا للتدخّل الإسرائيلي في فتنة السويداء... ولا كان هدفها التنصّل من أي تفاهمات أمنية وسياسية مع الرئيس الانتقالي أحمد الشرع للمضي قدمًا في تطبيع العلاقات وعقد معاهدة "سلام إبراهيمي". المقصود بالضبط فرض إرادة إسرائيل المطلقة على جميع الأطراف السورية.
السيناريوات مفتوحة على كلّ المخاطر المحتملة. لا شيء مُستبعد، التقسيم ماثل، الفيديرالية الطائفية والمذهبية واردة.
استدعاء التدخل الإسرائيلي العسكري من بعض أحفاد سلطان باشا إهانة لإرثه الوطني ولـ"جبل العرب الأشمّ"
أسوأ ما حدث في فتنة السويداء إهانة التاريخ الوطني بتمزيق صور سلطان باشا الأطرش، والتوغّل في ارتكاب الجرائم المريعة من الطرفَيْن المتقاتلَيْن.
انقضت أيام الأحلام الكبرى، التي حلّقت ذات يوم في السويداء حتّى وصلنا إلى استدعاء التدخل الإسرائيلي العسكري من بعض أحفاد سلطان باشا. كانت تلك إهانة أفدح لإرثه الوطني... ولـ"جبل العرب الأشمّ"، كما كان يُطلق على "جبل الدروز".
الدور العربي شبه غائب والوساطة أميركية بين الطرفين السوريين المتحاربَيْن، فيما يتقرّر فعله، أو يمتنع عنه.
على الرَّغم من بشاعة ما وصلنا إليه تتبدّى الوحدة في الذاكرة العامّة كحلمٍ يستعصي على محاولات الإجهاز عليه.
أجهزوا على تجربة "عبد الناصر" واصطادوها من ثغراتها، لكن للأحلام مناعةً أكبر وعمرًا أطول.
يستلفت الانتباه في أدائه لحظة الانفصال في سبتمبر/أيلول (1961) مدى إدراكه للحقائق في سوريا وخشيته على مستقبلها.
ممّا قال عبد الناصر في ظروف الانفصال: ليس مُهمًا أن تبقى الوحدة المهم أن تبقى سوريا
بعد الانفصال بأسبوع، قال في خطابٍ بثّته الإذاعة المصرية، كأنّه يقرأ طالع أيام لم تأتِ بعد: "إنّ الوحدة الوطنية في الوطن السوري تحتلّ المكانة الأولى... إنّ قوة سوريا قوة للأمّة العربية، وعزّة سوريا عزّة للمستقبل العربي، والوحدة الوطنية في سوريا دعامة للوحدة العربية وأسبابها الحقيقية. لست أريد أن أقيم حصارًا سياسيًا أو ديبلوماسيًا من حول سوريا، فإنّ الشعب السوري في النهاية سوف يكون هو الذي يعاني من هذا الحصار القاسي".
وكان ممّا قال في ظروف الانفصال: "ليس مُهمًا أن تبقى الوحدة، المهم أن تبقى سوريا".
بأثر الانفصال، تراجع زخم حركة التحرّر الوطني في العالم العربي وقوة حضور المشروع القومي.
لم تكن تجربة الوحدة رحلة نيليّة ذات صيف، بقدر ما كانت مواجهات مفتوحة امتدّت بعمق الخريطة العربية، وقد ارتبطت بالتحرّر من الاستعمار والتبعية واستقلال القرار الوطني، دارت معارك مع سياسة الأحلاف التي اتّبعتها الولايات المتحدة في محاولةٍ لملء الفراغ في المنطقة بعد الهزيمة السياسية المدوّية للإمبراطوريتَيْن البريطانية والفرنسية ومعهما إسرائيل في حرب السويس (1956).
تراه ماذا يقول سلطان باشا الأطرش إذا ما كان بيننا عمّا يحدث في السويداء من احترابات طائفية استدعت تدخلًا إسرائيليًا
لم تخترع ثورة "يوليو" المشروع العروبي، لكنّها جسّدته أملًا حيًّا على الأرض بسياساتٍ تبنّتها ومعارك خاضتها.
"لعنة الله على العرب".. كانت تلك صرخة غضب أطلقها سلطان باشا الأطرش بصوتٍ واهنٍ على سرير المرض الشديد قبل أن يغادر الحياة عام 1982.
اقترب منه نجله الوحيد "منصور" مستغربًا أن تصدر عنه مثل هذه العبارة: "لماذا يا أبي؟".
قال: "لديهم كلّ هذا السلاح ويكون هذا شأنُهم".
تراه ماذا يقول الآن إذا ما كان بيننا، عمّا يحدث في السويداء من فتنٍ واحتراباتٍ طائفيةٍ استدعت تدخلًا إسرائيليًا بصورة غير مسبوقة؟!.
(خاص "عروبة 22")