أكبر مسبّبات أزمة صناعة السيارات الأوروبية، هو التحوّلُ من السيارات العاملة بالوقود الأحفوري للسيارات الكهربائية، التزامًا بقرار الاتحاد الأوروبي بوقف بيع سيارات الوقود الأحفوري عام 2035، على الرَّغم من تحذيرات الخبراء ومسؤولي الشركات بأنّ المستهلكين والمصنّعين الأوروبيين غير جاهزين لهذا التحوّل بعد، وأنّ الصينيين متفوّقون على الأوروبيين في صناعة السيارات الكهربائية.
وأحد مظاهر أزمة السيارات الأوروبية يتمثّل في إغلاق عددٍ من المصانع وتسريح عمالتها، بخاصة المرتبطة بصناعة محرّكات الاحتراق الداخلي التي يُفترض توقّف إنتاجها بعد نحو 10 سنوات، بحيث أوقفت العديد من الشركات عمليات تطوير محرّكات وقود جديدة، وهو ما أدّى للاستغناء عن ثروةٍ من الباحثين والمهندسين، ممّا يمثّل خسارةً كبيرةً للشركات والبلدان الأوروبية.
التكامل العربي في صناعة السيارات ضرورة وطنية لكلّ دولة عربية
في المقابل، فإنّ الدول العربية تحتاج بشدةٍ لبناء صناعة سياراتٍ خاصّة بها، لأنها رافد رئيسي للتنمية نظرًا للدخل وفرص العمل الكبيرة التي توفّرها، كما أنّ استيراد السيارات يُمثل عاملًا رئيسيًا في استنزاف العملات الأجنبية.
ولقد بدأت دول عربية عدّة بالفعل بالاهتمام بصناعة السيارات، وتقدّمت المغرب في هذا المجال بشكلٍ كبيرٍ، حيث اجتذبت استثمارات الشركات الفرنسية على وجه الخصوص، وبلغ حجم الإنتاج نحو 500 ألف سيارة وصادرات بقيمة 17 مليار دولار في عام 2024. كما شرعت مصر في الاهتمام بهذه الصناعة، وبدأت شركات صينية بتجميع السيارات في أراضيها، وهناك مساعٍ لتعزيز المُكوّن المحلي، كما أنّ هناك خططًا في السعودية لبناء صناعة سياراتٍ وطنيةٍ، وجهودًا في الجزائر لتعزيز صناعة السيارات القائمة.
ولكنّ محاولات أي دولة عربية منفردة لبناء صناعة سيارات محلّية معزولة عن محيطها الإقليمي تبدو صعبة المنال، لأنّ صناعة السيارات من أكثر الصناعات احتياجًا لأسواقٍ كبيرةٍ لاستيعاب الإنتاج الضخم ولتحقيق الربحيّة والمنافسة، كما أنّه لا يوجد دولة بمفردها، حتّى ولو غنيّة، تستطيع إنتاج نسبةٍ مُعتبرةٍ من مكوّنات السيارات، إضافةً إلى أنّ صناعة السيارات تحتاج إلى استثماراتٍ ضخمةٍ وعمالةٍ كثيفةٍ ورخيصةٍ ومدرّبة، وبينما تفتقد الدول العربية غير النفطية إلى الاستثمارات، تفتقد أغلب الدول العربية النفطية العنصر الثاني. وبالتّالي، فإنّ التكامل العربي في صناعة السيارات ليس نابعًا فقط من مشاعر قوميّة نبيلة، ولكنّه ضرورة وطنية لكلّ دولة عربية.
إذا وضعت الدول العربية استراتيجية منسّقة يمكنها أن تحشد رأسمالًا لإطلاق صناعة سيارات في المنطقة
أمّا السبب في أنّ أزمة صناعة السيارات الأوروبية تُمثّل فرصةً يجب عدم تفويتها، فينبع من أنّ هناك استياءً لدى الشركات الأوروبية والعالمية من سياسات الاتحاد الأوروبي للتخلّي عن محرّكات الاحتراق الداخلي، وهذه الشركات تبحث عن أسواق جديدة للاستثمار، ويكاد يكون العالم العربي (إضافة إلى أفريقيا جنوب الصحراء) إحدى مناطق العالم القليلة التي لم تشهد توسّعًا يُذكر في صناعة السيارات بالعقود الماضية، وفي الوقت ذاته، فإنه يُمثّل سوقًا واعدةً قابلةً للنموّ خصوصًا في ظلّ ضعف وسائل المواصلات العامة في المنطقة ورخص الوقود.
يمكن للدول العربية، إذا وضعت استراتيجيةً منسّقةً، أن تحشد رأسمالًا من القطاع الخاصّ والصناديق السيادية العربية لإطلاق صناعة سيارات في المنطقة، بحيث تستضيف كلّ دولة مصانع في المجال الذي تتميّز به، مع إمكانيّة توزيع العلامات التجارية على الدول العربية الرئيسيّة.
هذا التعاون العابر للحدود القُطرية بين الحكومات والقطاع الخاص والصناديق السيادية ليس مستحيلًا، إذ تشهد المنطقة بالفعل حاليًا حالةً مشابهةً بالقطاع العقاري، حيث تتحوّل شركات "طلعت مصطفى" و"آل ساويرس" المصرية والشركات الإماراتية والسعودية والقطرية المدعومة من الحكومات، إلى كِياناتٍ عربيةٍ عابرةٍ للحدود، وتؤسّس مُجمّعات سكنية بنمط متشابه تمتدّ من ساحل مصر الشمالي إلى السعودية والعراق وسلطنة عُمان.
إذا تمّ خلق تجمّعات مالية مماثلة عبر تعاون القطاع الخاص العربي الكبير العامل في مجال تجارة وتجميع السيارات، مدعومةً بالصناديق السيادية، مع إيجاد سوق عربية موحّدة للسيارات عبر تطبيق الاتفاقات القائمة، وإبرام اتفاقيّات جديدة، وتقسيم سلاسل التوريد بين الدول العربية، فإنّ فرص النجاح عالية جدًا، من منظور ماليّ واستثماريّ بالأساس.
ويمكن لهذه التجمعات شراء التكنولوجيا من الشركات الأوروبية، وبخاصة في مجال محرّكات الاحتراق الداخلي التي ستصبح محظورةً أوروبيًا بعد سنوات، كما يمكن استقدام كوادر أوروبية من المصانع والمؤسّسات التي يجري إغلاقها لتدريب العمالة العربية.
والأهمّ، يمكن عقد شراكات مع الشركات الأوروبية لتصنيع سياراتها العاملة بالوقود في العالم العربي بعد توقّفها في أوروبا، لبيعها محليًا وتصديرها إلى الأسواق المجاورة، خصوصًا أفريقيا وآسيا الوسطى وهما منطقتان قريبتان من العالم العربي وتفتقدان لصناعة سيارات محلّية قوية.
إثبات الجدوى الاقتصادية والبيئية للسيارات الهجينة سيُطيل عمر النفط الذي يمثّل مصدر الدخل الأساسي للعالم العربي
إنّ جزءًا من أهميّة الطرح الداعي للتحالف مع شركات السيارات الأوروبية نابع من أنّ أزمتها ستجعلها أكثر تساهلًا بالتفاوض من الشركات الصينية ذات الوضع الأقوى وبالتالي الأقلّ حاجةً للاستثمارات العربية.
وللتماشي مع التوجّهات العالمية الصديقة للبيئة، يمكن التوجّه لدمج تكنولوجيا الطاقة الهجينة (وقود / كهرباء) في محرّكات الاحتراق الداخلي، وهو خيار أكثر واقعيةً وأقل تكلفةً من التحوّل للسيارات الكهربائية الكاملة، ويمكن للاستثمارات الخليجية أن تشجّع الشركات العالمية على إثبات الجدوى الاقتصادية والبيئية للسيارات الهجينة.
وهذا سيحقّق ميزةً إضافيةً للدول النفطية العربية، إذ سيساهم في استمرار السيارات العاملة بالوقود الأحفوري عالميًا، في مواجهة الهوس الأوروبي بالقضاء عليها، وهو الأمر الذي سيُطيل عمر النفط الذي يمثّل مصدر الدخل الأساسي للعالم العربي.
العالم العربي مؤهّل ليلعب دورًا مزدوجًا في صناعات السيارات الهجينة والعاملة بالوقود كمستثمر ومُصنّع
من شأن هذه المقاربة أن تجعل العالم العربي محورًا صناعيًا وماليًا لصناعة السيارات الهجينة والعاملة بالوقود، ويشجّع على إنتاجها وتصنيعها خارج العالم الغربي، وبخاصة في مناطق مثل أفريقيا وجنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى وأميركا اللاتينية، وهي المناطق التي من المرجّح أن تشهد أغلب النموّ في استهلاك النفط بالسنوات القادمة، في ظلّ التوجه الصيني والغربي للسيارات الكهربائية، خصوصًا أنّ الجنوب العالمي غير مؤهّلٍ للتحوّل إلى السيارات الكهربائية، بسبب ضعف بنية الشحن، والطابع الريفي الواسع وعوامل أخرى.
العالم العربي بسوقه الكبيرة وصناديقه السيادية مؤهّل ليلعب دورًا مزدوجًا في صناعات السيارات الهجينة والعاملة بالوقود، كمستثمرٍ ومُصنّع، ولكنّه يحتاج إلى استراتيجيةٍ مُنسّقة للاستفادة من إمكانياته الكامنة.
(خاص "عروبة 22")