استعادة التاريخ أساسيّة هنا من أجل البحث عن المخرج، لا بمعنى تكراره ولا بمعنى استعادته كإيديولوجية، بل استعادته كأداةٍ معرفيةٍ لمعرفة أنفسنا ومعرفة مكوّنات واقعنا، وبالتالي وضع تصوّرات تتفهّم هذا الواقع وملابسات تكوّنه التاريخية، فالتركيز على السياق التاريخي سيكون لاستشراف مسارٍ بديلٍ للمستقبل القاتم، بناءً على معطيات الحاضر الذي نعيش فيه، لذا لا نستطيع أن نفكر في فكرةٍ أفضل من العروبة كغطاءٍ جامعٍ للمنطقة يَحشدُ قواها بغية توفير الوقت لبدء عملية الإصلاح من الداخل.. لكن كيف نتحدّث عن العروبة كغطاءٍ جامعٍ وفي المنطقة العربية الكثير من مجموعاتٍ إثنيةٍ غير عربية؟.
تفعيل مَلَكَة النقد الذاتي أمر مُهم وضروريّ إذا كنّا نريد الخلاص من الواقع الدموي الذي تعيش فيه المنطقة
هنا ننطلق من تصوّرٍ وتعريفٍ مختلفٍ للعروبة، لا نركّز على الشقّ السياسيّ، بل على الشقّ الثقافيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، وكلّها عوامل مشتركة بين أبناء هذه المنطقة، فالأكراد مثلًا شاركوا في الحضارة العربية بشقٍّ وافر. ولا ننسى صلاح الدين الأيوبي الكردي الذي كان يجمع بين الهوية الكردية والعربية في يسرٍ وسهولة، وقبله نور الدين الزنكي التركي الذي اعتنق العربية لغةً وثقافةً، والأرمن الذين لعبوا الكثير من الأدوار في حضارة المنطقة العربية قبل الإسلام وبعده، والأمازيغ الذين تداخلوا مع العرب فبنوا الإمبراطوريات الضخمة في مغرب العالم العربي، فالتعايش تحت المظلّة العربية كما نفهمه لا يعني إزالة الفوارق وكبت الهويات، بل التلاقح بينها والاستثمار في التنوّع الخلّاق.
التاريخ يقول لنا هنا إنّه عندما نؤسّس لفكرٍ يُخاطب المستقبل، يجب استرجاع التجارب الأخرى، أي تفعيل مَلَكَةِ النقد الذاتي، وهو أمر مُهم وضروريّ إذا كنّا نريد الخلاص من الواقع الدموي الذي تعيش فيه المنطقة. فالبداية التي ينطلق منها أي مشروعٍ إنقاذيّ هي الاعتراف بالتنوّع، وتعدّد الهويات والأديان والمذاهب والأفكار والإثنيات، وأنّ هذا التنوّع يلتقي على أرضيةٍ عربيةٍ سواء من حيث اللغة أو الوسيط الثقافي أو مكوّن الأغلبية، والتذكير بالأدوار التاريخية لكلّ مكوّنات عالمنا العربي، فهل ينسى أحد للدروز موقفهم العروبي في ثورة 1925 مثلًا؟ إنّ النقاط التاريخيّة المضيئة التي ينبني عليها مستقبل مشترك كثيرة، لكن تحتاجُ إلى مواجهة الواقع بشجاعة.
ديكتاتوريات حملت شعار العروبة كتغطية شعبوية لقمعها الشعوب فزرعت الشقاق والعداء بين الأغلبيّة والأقليات
ومن أهم مكوّنات شجاعة المواجهة، نقدُ التجارب التاريخيّة التي حملت لواء العروبة في العصر الحديث، إذ كانت في التحليل النهائي ديكتاتوريات في كثيرٍ من الأحيان، حملت شعار العروبة كتغطيةٍ شعبويةٍ لقمعها للشعوب ومكوّناتها، فزرعت الشقاق والعداء بين الأغلبيّة والأقليات، وجرفت المجتمعات العربية وسمحت بانتشار أفكار "إسلاموية" مُعادية لأي أفكار معايشة وتقبّل الآخر، فكانت النتيجة ما وصلت إليه المنطقة من تكالُب الأعداء وتدخّل القوى الخارجية في كلّ شبرٍ من أراضي المنطقة، كما هو حاصل في العراق وسوريا. المطلوب أن يتمّ صراحةً تأسيس الخطاب لا على أساس المُغالبة، بل على أساس المشاركة واحترام ثقافة الآخر واختلافه، والعمل على إدارة حوارٍ معه قائم على الاحترام المُتبادل في إطار اعتناق فكرة التنوّع الخلّاق لا على سبيل الشعارات، بل على سبيل الممارسة على أرض الواقع.
الوصول لمستقبل بديل عمّا يُرسم لنا لن يكون إلّا بالعروبة بفهم جديد يوازن بين مصالح جميع أبناء الشعب لا الأنظمة
المنطقة العربية تمرّ بمنعطفٍ خطيرٍ معالمه واضحة لكلّ ذي عينين، وواهمٌ مَن يظنّ أن الخروج من المسار الحالي بنهايته السوداء التي تلوح في الأفق، ممكنٌ من خلال الاستعانة بقوًى دوليةٍ لم يكن لها همّ إلّا تدمير أي تجربة تنموية في المنطقة لكي تتمكّن من وضع يدها على ثروات المنطقة الطائلة بكلّ سهولة. فلا يمكن للعدو أن ينصرنا في أزمةٍ هو أحد مكوّناتها، لذا لن تخرج المنطقة من مأزقها الحالي بما فيه من طائفية وميليشيا وديكتاتورية إلّا بحديثٍ صريحٍ مع النفس، والبحث عن مخرجٍ للوصول إلى مستقبلٍ بديلٍ عمّا يُرسم لنا، ولن يكون هذا إلّا بالتكاتف، وأرضيته العروبة بفهمٍ جديدٍ يحترم التنوّع والاختلاف، ويوازن بين مصالح الجميع من أبناء الشعب لا الأنظمة.
(خاص "عروبة 22")