وببساطة شديدة، يشرح أحمد سبب مقاطعته للنوع الذي اعتاد استخدامه من الشاي قائلًا: "أشعر وأنا أتناوله وكأنني أتناول دماء أشقائي الفلسطينيين"، في ظلّ العدوان الذي يشنّه الاحتلال على قطاع غزة.
وكانت حركة مقاطعة إسرائيل في مصر قد نبّهت إلى أنّ كثيرًا من الشركات العالمية مرتبطة بالكيان الصهيوني ولها مصالح مشتركة تتقاطع معه، وجزء منها مرتبط بالاقتصاد الإسرائيلي بدرجات متفاوتة الأمر الذي يجعلها شريكة في الحرب على فلسطين. ودعت الحركة المصريين إلى استخدام سلاح المقاطعة لجعل هذه الجهات والشركات تدفع ثمن تورّطها بالمجازر الإسرائيلية عبر دعمها العدو، إضافةً إلى أنّ المقاطعة بحدّ ذاتها تمثّل موقفًا صريحًا تجاه جهات أيّدت الحرب في فلسطين وخصوصًا في قطاع غزة.
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تداول المصريون عشرات الصور لمطاعم عالمية وشركات ملابس تعلن دعمها للعدو الإسرائيلي. ونجحت حملات المقاطعة في إجبار فروع هذه الشركات في مصر على التبرؤ من دعم إسرائيل، فنشر على سبيل المثال مطعم "ماكدونالدز" بيانًا قال فيه إنه يتبع شركة تحمل اسم "مانفودز-ماكدونالدز" مصرية 100% يمتلكها رجل أعمال مصري، وتوفر 40 ألف فرصة عمل بشكل مباشر وغير مباشر لمواطنين مصريين وعائلاتهم من خلال شركائها ومورّديها المحليين، وإنّ علاقتها بالشركة العالمية تتمثّل في تعاقد يتعلّق بالسماح لها باستخدام العلامة التجارية محليًا وإمدادها بالخبرة والمعرفة.
غير أنّ بيان الشركة لم يغيّر موقف المصريين منها، فظلّت فروعها "خاوية على عروشها"، تتراص فيها الكراسي الفارغة حول طاولات، بعد أن غاب عنها روادها، واختفى عمّال توصيل الطلبات من شوارع القاهرة والمحافظات إثر قرار المصريين مقاطعتها.
واضطرّ العديد من الشركات التي ضمّتها قوائم المقاطعة إلى تقديم عروض للمواطنين في محاولة لكسر الإجماع الشعبي، وخوفًا من خسارة سوق هو الأكبر في الشرق الأوسط، حيث تحتلّ مصر المركز 14 عالميًا بعدد سكّان يبلغ 105 مليون مصري في الداخل، طبقًا لآخر إحصاء للمركز المصري للتعبئة والإحصاء، فشهدت المتاجر عروضًا لتخفيضات على بيع منتجاتها بنسبة تعدّت 50 في المئة.
صور العروض تداولها روّاد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، كدليل على نجاح حملة المقاطعة، محذّرين في الوقت نفسه من الانخداع ومحاولة اللعب على ورقة الأزمة الاقتصادية والظروف الصعبة التي تعيشها الأسر المصرية بسبب انخفاض قيمة العملة المحلية.
ونتيجةً للحملة، مُنيت الشركات الداعمة للاحتلال، خسائر ضخمة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، ما ظهر في مؤشرات البورصة العالمية. فعلى سبيل المثال، سجلت أسهم "ماكدونالدز" و"ستاربكس" و"بيبسيكو"، تراجعًا كبيرًا خلال جلسة تداولات الخميس 26 أكتوبر/تشرين الأول الجاري في السوق العالمية، بعد إعلان تلك الشركات دعمها لجيش الاحتلال الإسرائيلي. وسجّل سعر سهم "ماكدونالدز" تراجعًا بنسبة وصلت إلى 0.85%، لينخفض من مستوى 259.54 دولارًا إلى 255.83 دولارًا عند الإغلاق. كما سجّل سهم "ستاربكس" تراجعًا بنسبة وصلت إلى 1.14%، خلال الجلسة ذاتها ليتراجع من مستوى 93.48 دولارًا إلى مستوى 92.67 دولارًا عند الإغلاق.
مخاوف المصريين من دعم منتج ربما تكون الشركة المصنّعة له تدعم الاحتلال، دفعهم للبحث عن منتجات محلية بديلة. الأمر الذي التقطته الشركات المصرية، ليصبح إعلان "مصري 100 في المئة" جاذبًا لأوّل مرّة منذ سبعينيات القرن الماضي عندما أعلن الرئيس المصري محمد أنور السادات آنذاك تبني سياسة الانفتاح الاقتصادي على حساب النظام الاشتراكي الذي تبنّاه الزعيم جمال عبد الناصر خلال فترة حكمه، لتبدأ حينها رحلة غياب المنتج المصري عن السوق، وهي السياسة التي زرعت داخل المصريين شعورًا بأنّ المستورد هو الأفضل.
شركات عديدة ربما لم يسمع الكثيرون بها من قبل ولم يسعَ أصحاب المتاجر لعرض بضائعها، عادت ورفعت شعار "مصري 100 في المئة"، ووجدت المصريون في انتظارها.
شركات مياه غازية ومنظّفات وأدوات تجميل ومفروشات وأغذية مصنّعة، بدأت تظهر إعلاناتها على مواقع التواصل للمصريين للمرة الأولى منذ عقود. كما بات إعلان المطاعم على صفحات التواصل الاجتماعي يتميّز بشيئين، علم فلسطين والتأكيد على ملكيته لمواطنين مصريين، ومن حاول جذب عملاء أكثر، يضع علم إسرائيل على الأرض أمام أبوابه ليمنح زبائنه فرصة لوضع أحذيتهم عليه.
لم تكن حملات مقاطعة المصانع والمطاعم الداعمة للاحتلال جديدة في مصر، إذ يعود تاريخها إلى انتفاضة الأقصى عام 2000، لكن هذه المرّة اكتسبت دعمًا شعبيًا أكبر في ظلّ وجود مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشار صور وشركات ومطاعم تدعم المحتل وتقدّم وجبات وهدايا لجنوده.
ففي عام2000 ومع اندلاع انتفاضة الأقصى، كانت إحدى المهام التي وضعتها الحملة الشعبية لدعم الشعب الفلسطيني على عاتقها هي مقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية، بحسب الدكتورة كريمة الحفناوي القيادية بالحزب الاشتراكي المصري وأحد مؤسسي الحملة.
وتروي الحفناوي لـ"عروبة 22" كيف تأسّست حملة المقاطعة فتقول: "في سبتمبر/أيلول 2000، تأسّست الحملة الشعبية لدعم فلسطين، وانبثقت عنها أكثر من لجنة، بينها لجنة المقاطعة التي طالبت بتنشيط لجنة المقاطعة العربية التي تأسّست عام 1954، وتشكّلت لجان في النقابات لتأكيد أهمية المقاطعة، ففي نقابة الصيادلة تشكّلت لجنة مهمّتها تحديد الأدوية التي تدخل في المقاطعة وتوفير البدائل للمصريين".
وتضيف: "لم تكن هناك مواقع التواصل الاجتماعي قد ظهرت وقتها، فكنّا ننزل كمجموعات إلى الأحياء الشعبية والأسواق، ونجري حوارًا مع المواطنين البسطاء، وكنا نجد استجابة واسعة بسبب الغضب من الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينين، كما كنا نستخدم مطبوعات صغيرة الحجم يمكن لصقها في المتاجر أو على الجدران مكتوب فيها "قاطع" مع صورة للمنتج الذي يدعم الاحتلال أو يعود لشركات تساهم في بناء المستوطنات". أما اليوم، فتؤكد الحفناوي أنّ مواقع التواصل الاجتماعي سهّلت مهمة لجان المقاطعة في التواصل مع المواطنين.
من ناحيتهم، يبرر رافضو حملات المقاطعة موقفهم، بأنّ كل المنتجات الأجنبية العاملة في مصر هي صناعة مصرية ولكنها تستخدم "العلامة التجارية" لهذه المنتجات فقط، وبالتالي فإنّ المقاطعة ستؤثر على العمالة المصرية في المصانع بجانب السلسلة التي تغذي عملية الإنتاج.
وهي مخاوف تردّ عليه الحفناوي بقولها: "في مجتمع مثل مصر سيظلّ حجم الاستهلاك كما هو لا يتغيّر، الفرق أنك ستنقل استهلاكك إلى شركة لا تدفع من أرباحها لأعدائك، وكلّما زاد الإقبال عليها ستوفر مزيدًا من فرص العمل، فإذا أغلق مصنع أو مطعم يخدم العدو سينتقل المستهلك بطبيعة الأمر إلى المنتج المصري ما يعني احتياجه لعمّال إضافيين".
وتتذكّر الحفناوي نجاح حملة المقاطعة في مصر، في إغلاق فروع متاجر كانت موجودة مطلع القرن الجاري ومعروفة بدعمها للصهاينة تحمل اسم "سينسبري"، ومع رفض المصريين التعامل معها، ظلت خاوية لفترة طويلة، ما اضطرّ مالكها لإغلاقها والرحيل من مصر.
خفت أداء اللجنة الشعبية لدعم فلسطين خلال السنوات الماضية، لكنها عادت مع العدوان على غزّة لتُعلن في بيان "إعادة تأسيسها"، وتؤكد على ضرورة وقف العمل باتفاقية السلام مع إسرائيل المعروفة إعلاميا بـ"كامب ديفيد" وقطع كل العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية ووقف التطبيع بكل أشكاله مع إسرائيل.
وكانت مصر أوّل دولة عربية وقّعت اتفاقية سلام مع الاحتلال الإسرائيلي عام 1979، لكن هذه الاتفاقية ظلّت على المستوى الرسمي فقط، يلفظها الشعب ولا يعترف بها، ما أفشل كل محاولات التطبيع التي سعى ولا يزال يسعى إليها المحتل.