وبينما كان مشهد هذه الطائرة البشرية المزوّدة بعجلات ومراوح، هو الأشهر، ولكن "طوفان الأقصى" كان يحتوي على مفاجآت تقنية أخرى صدمت الإسرائيليين، مثل استخدام طائرات مسيّرة تجارية وأخرى مصنوعة في غزّة لتدمير الكاميرات وبالونات المراقبة الإسرائيلية، واستخدام صور الأقمار الصناعية مفتوحة المصدر لرصد أماكن القواعد العسكرية الإسرائيلية وتفاصيلها الداخلية مما سهّل اقتحامها، إضافةً لإطلاق قذائف مضادة للدبابات محلية الصنع مثل "الياسين".
كانت عملية "طوفان الأقصى"، في جوانب كثيرة، جزءًا من الصعود التقني والعسكري للمجتمعات المهمّشة في العالم أمام المجتمعات الأكثر ثراءً، فمنذ اختراع المدفع، حُسم الصراع العسكري إلى حد كبير لصالح الأثرياء والمتقدّمين تكنولوجيًا، فلم يسيطر الإنجليز على العالم لأنهم الأشجع بل لأنهم الأكثر تقدمًا والأغنى، وجاءت الدبابة والطائرة لتؤكدا على أفضلية المجتمعات المتقدّمة الثرية الكبيرة في الحروب.
هوامش التفوّق التقني والتدريبي تتآكل، بفضل ما يمكن تسميته بديمقراطية التكنولوجيا
ولكن اليوم تتخلخل هذه المعادلة، بات الثراء والتطوّر الاقتصادي في بعض الأحيان عامل ضعف مثل الضعف الأوروبي ولا سيما الالماني أمام روسيا حيث تعاني معظم جيوش أوروبا من أزمة في التجنيد، بسبب عدم رغبة الشباب في ترك حياة المدينة وشاشات الهواتف ليحارب في البراري.
وحتى في روسيا، يهرب الجامعيون من البلاد حتى لا يشاركوا في الحرب بينما يلعب السجناء والشيشانيون الذين يمثلون هوامش المجتمع الروسي دورًا رئيسيًا في القتال.
وحتى إسرائيل، التي توصف بأنها جيش له دولة، هناك مؤشرات (قبل الحرب الحالية) على تململ الشباب الإسرائيلي المتعلّم من الالتزام بالتجنيد لمدد طويلة، وهناك مؤشرات على أنّ الرغبة في القتال لدى الجيل الحالي من الإسرائيليين ليست هي ذاتها الرغبة التي كانت عند أسلافهم المنحدرين من العصابات الصهيونية القادمة من شرق أوروبا والتي خلقت واحدًا من أقوى جيوش العالم.
ولكن الجيش الإسرائيلي لديه هامش تفوّق تقني وتدريبي ساحق، على خصومه سواء من الدول أو الحركات، ولكن هناك مؤشرات بدت واضحة في عملية "طوفان الأقصى" (وظهرت أيضًا في حروب سابقة) أنّ بعض هوامش التفوّق التقني والتدريبي تتآكل، بفضل ما يمكن تسميته بديمقراطية التكنولوجيا إضافةً للإصرار الذي يتّسم به المجتمع الفلسطيني ورغبته في التقدّم.
فرغم محاولة الدول الكبرى احتكار التكنولوجيا بما فيها العسكرية، ولكن هذا يبدو صعبًا، حيث بات يمكن الوصول لبعض أكثر التقنيات تطوّرًا عبر منافذ عملية مفتوحة أو عبر القرصنة مثلما تفعل الصين، أو من الأسواق الرسمية والموازية مثلما تفعل الفصائل الموالية لإيران التي حصل بعضها على أفضل تقنيات الرؤية الليلية العالمية مثلًا من الأسواق السوداء.
أكفأ موجّهي المسيّرات الأوكرانيين يكونون أحيانًا من هواة ألعاب الفيديو وليسوا خرّيجي كليات عسكرية
ويُظهر بعض جوانب ثورة التكنولوجيا وأسلحة الجيل الحالي، أنها تعطي بعض الميزات لجيوش الدول الصغيرة والمجموعات غير النظامية، ظهر ذلك واضحًا في استخدام "حزب الله" صواريخ كورنيت الروسية ضد دبابات ميركافا الإسرائيلية الشهيرة خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، وظهر بشكل أكبر في حرب أوكرانيا، حيث تصدت القوات الأوكرانية بواسطة الصواريخ المحمولة على الأكتاف، وطائرات بيرقدار التركية المسيّرة الأبطأ من الصوت، ومسيّرات أخرى مشتراة من الأسواق التجارية، لأسطول الدبابات الروسي الأكبر في العالم مسبّبةً له كارثة حقيقية، إذ تبدو الدبابات التي كانت بمثابة حصون للجنود تتحوّل لأفخاخ للمحتمين بها.
كما تصدت كييف للأسطول الجوي الروسي، الثاني في العالم من حيث الحجم والقوة، بصواريخ ستينغر المحمولة على الأكتاف، (إضافةً للأنظمة التقليدية بعيدة ومتوسطة المدى).
بالطبع لدى أوكرانيا ميزة لا تتوفر للقوى المهمّشة في العالم، هي حصولها على الأسلحة الغربية المتطوّرة، إضافةً للتوجيه الأمريكي بناءً على الرصد الدقيق للمواقع الروسية، ولكن نجاح الجيش الأوكراني في وقف الهجوم الروسي الأول بواسطة الأسلحة الخفيفة المشار إليها التي منحها الغرب على عجل لكييف قبل وصول الأسلحة الأثقل، كشف عن إمكانية صمود القوى الصغيرة أمام القوى الكبرى لو اتبعت المقاربات الملائمة.
ولكن وضع غزّة أكثر صعوبة، وبالتالي أكثر مفاجأة، فغزّة محاصرة تمامًا من قبل الاحتلال وممنوع عليها الحصول على أبسط الخامات والتقنيات التي يُشتبه من بعيد أنها سوف تُستخدم في صناعة الأسلحة.
غير أنّ التطوّر التكنولوجي الحالي يبدو أصعب من أن يمكن السيطرة عليه، فتصنيع المسيّرات بات شائعًا لدى هواة الطيران في العالم والشركات التجارية، إضافةً للقوى غير النظامية مثل الحوثيين والفصائل الفلسطينية، حتى لو كانت التقنية والتصميمات قادمة من إيران، (التي هي بدورها محاصرة)، وأثبتت المسيّرات في حرب أوكرانيا، أنها سلاح فعال ورخيص، ولا يحتاج لتدريب طويل، بل إنّ أكفأ موجّهي المسيّرات الأوكرانيين يكونون أحيانًا من هواة ألعاب الفيديو، وليسوا خرّيجي كليات عسكرية بالضرورة.
وحتى الصواريخ بات تصنيعها مسألة ليست صعبة على المجموعات والدولة المهمشة والمحاصرة، ويمكن الحصول على الأجزاء الأكثر تعقيدًا من الأسواق الدولية بما في ذلك أسواق تجارية شرعية.
كما أنه في مواجهة إمكانيات الدول المتقدّمة، فإنّ دأب مجموعات القراصنة المتطوعين يمكن أن يشكّل مشكلة لأي دولة مهما كانت متقدّمة، وقد تحوّلت إيران من قوة مثيرة للسخرية بمجال الحرب الإلكترونية لقوة تحسب لها إسرائيل الكثير، ولكوريا الشمالية المعزولة جيش مهاب من القراصنة.
وفي مواجهة الإمكانيات الكبيرة للجيوش القوية مثل جيشي إسرائيل وروسيا، وما تتّسم به مثل هذه الجيوش من التقسيمات الإدارية المعقّدة، أظهرت بعض الحركات والميليشيات وكذلك بعض الجيوش الضعيفة مثل الجيش الأوكراني (المشهور قبل الحرب بالفساد وضعف الانضباط) مرونةً لافتةً مقارنةً ببيروقراطية الجيوش العريقة، وخاصة إذا كانت هذه حركات تحرّر وطني أو مؤدلجة، بل إنّ ميلشيات ليست مؤدلجة كالدعم السريع بالسودان أثبتت مرونة واضحة في القتال، وبدأت تتبنّى بعض التقنيات الحديثة.
العوامل الذاتية الموجودة في غزّة، تتضافر مع ديمقراطية التكنولوجيا الجزئية التي تحدث رغم أنف صنّاعها
وتمثّل غزّة نموذجًا فريدًا للمجتمعات المهمّشة، فرغم أنها أكثر مكان في الأرض محاصر، وواحد من أفقر البقاع في العالم العربي، ولكنها ليست خارج حركة التقدّم التكنولوجي والعلمي بالكامل.
غزّة المهمّشة تضع قدميها في البؤس والحصار، ولكن أعينها على الحداثة.
نعم تعاني من انتشار الفقر والبطالة، ولكن لديها مستوى تعليم جيّد ورغبة في التطوّر والتعلّم عبر جامعات ذات مستوى علمي مقبول، وبعثات تذهب لمصر والدول العربية الأخرى وحتى الدول الغربية، ومجتمع مغترب يفتح منافذ عدة على الحداثة، يضاف لذلك روح وطنية متقدة.
هذا الالتقاء بين البؤس والمعاناة المفضيين للصلابة والقدرة على تحمّل التضحية وبين بعض العلم والحداثة، يمثّل مزيجًا يشبه نشأة إسرائيل نفسها، التي تشكّلت من مهاجرين يهود قادمين من دول أوروبا الشرقية التي شهدت خلال النصف الأول من القرن العشرين أسوأ معاناة قد يكون عرفها البشر على مدار تاريخهم، ولكن في الوقت نفسه كان المستوى العلمي لدول أوروبا الشرقية مرتفعًا وقريبًا من أوروبا الغربية وأمريكا، وأعلى بكثير من بقية العالم، وكان يهود أوروبا الشرقية يمثّلون نخبة مجتمعاتهم مثلما يعد الفلسطينيون حاليًا واحدًا من أكثر المجتمعات العربية اهتمامًا بالتعليم.
وبينما تلقى يهود أوروبا الشرقية دعمًا من الدول الغربية ومن يهود أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأثرياء، فإنّ غزّة لا تلقى دعمًا مماثلًا، باستثناء دعم عسكري محدود من إيران و"حزب الله"، ودعم إنساني من بعض المؤسسات الأممية ودور مصر كحاضنة اجتماعية وعلمية مؤثّرة بالنسبة للقطاع.
وبينما كانت الأيدولوجيا الصهيونية والمحرقة النازية بمثابة رافعتي تحويل الشتات اليهودي الذي عانى لقرون من الهوان لقوة ضاربة، فإنّ الاحتلال والحصار في غزّة يمثّلان عاملي دفع جديدين لمحاولة الاستفادة من الحصار للتحوّل لقوة فاعلة في مواجهة إسرائيل.
الصواريخ التي تستهدف الآن تل أبيب بدأت كصواريخ بدائية كانت توصف بالصواريخ الكارتونية
هذه العوامل الذاتية الموجودة في غزّة، تتضافر مع ديمقراطية التكنولوجيا الجزئية التي تحدث رغم أنف صنّاعها، وتحتاج غزّة لتوسيع تجربة الابتكار في المجال العسكري للمجال المدني، فحتى مشكلة اعتماد القطاع على الكهرباء الإسرائيلية يمكن مواجهتها جزئيًا عبر ألواح الطاقة الشمسية وهذا يبدو قد بدأ بالفعل.
تبقى نقطة ضعف غزّة الأساسية ومجال تفوّق إسرائيل الرئيس وهو سلاح الطيران، ولكن الأنفاق التي حفرتها الفصائل الفلسطينية قلّلت من قدرة طائرات إسرائيل على استهداف بنيتها العسكرية، ما ترك الاحتلال يصبّ غضبه على المدنيين، كما تجدر الملاحظة أنّ الفصائل الفلسطينية أطلقت صواريخ دفاع جوي على طائرات إسرائيلية بعضها محلي الصنع، ولكن رغم أنها لم تُسقط أي منها، ولكنها مجرد بداية، ويجب تذكّر أنّ الصواريخ التي تستهدف الآن تل أبيب بدأت كصواريخ بدائية وكانت توصف بالصواريخ الكارتونية، مما قد يعني أنّ الصواريخ الفلسطينية المضادة للطائرات يمكن أن تتطوّر بدورها.
في المقابل، لا يجب الاستهانة بالاستجابة الإسرائيلية، فرغم وضوح أنّ الإسرائيليين بالغوا في الثقة بقدراتهم، وتقنياتهم، ولكن "طوفان الأقصى" بمثابة جرس إنذار بالنسبة لهم وحتى إذا انتهت الحرب دون احتلال غزّة ودون القضاء على الفصائل الفلسطينية كما يتوعّدون، فإنهم سيحكمون الحصار أكثر على غزّة، وسيعملون على إفساد محاولات التقدّم في القطاع على المستويات العسكرية وحتى الاقتصادية والعلمية.
(خاص "عروبة 22")