وجهات نظر

أحزابنا السياسية بين التعدّد والتشتّت

الطبيعي والسواء، في الحياة السياسية السليمة في المجتمع الإنساني المعاصر، أن يعرف ذلك المجتمع وجود أحزاب سياسية عديدة، وليس حزبًا واحدًا، أيًا كانت درجة الانسجام التي يبلغها ذلك المجتمع وأيًا كانت بساطة تركيبته الإثنية والمجتمعية. فليس أمر الديمقراطية يستقيم ولا المجتمع السياسي يتحقق إلا بالتعدّد في الرأي والاختلاف في الرؤية وفي التخطيط. وليس الحكم الرشيد شيئًا آخر سوى القدرة على "تدبير الاختلاف".

أحزابنا السياسية بين التعدّد والتشتّت

وإذن فليس يكون للديمقراطية معنى، ولا للحياة السياسية السليمة - وبالتالي الطبيعية - حياة في ظل نظام سياسي لا يرتضي وجود الأصوات المتعددة. من ثم أتى الديمقراطيات العريقة على حماية" الأقلية" من ممارسة الاستبداد الدي قد تمارسه عليها "الأغلبية" فتحول بينها وبين التعبير عن رأيها.

الديمقراطيات تحرص على مراعاة الأسُس التي تنهض وحدة الأمّة على أساسها

ومن أساليب الحيلولة دون "موت" الأقلية حرص الدساتير، في الديمقراطيات الحق، على إسناد رئاسة لجان تشريعية بعينها إلى الأقلية تنصيصًا. بيد أنّ الديمقراطيات الجديرة بهذه الصفة تحرص، في المقابل، على مراعاة الأسُس التي تنهض وحدة الأمة على أساسها ومن ثم فإنها تقيم الحواجز في وجه النزعات التي تستهدف النيل من تلك الأسس. من ذلك، مثلًا، المنع العلني، في منطوق الدستور، من تأسيس حزب على أساس عرقي أو جهوي أو آخر ديني. ومسألة المنع هذه تقودنا إلى إثارة الموضوع التالي: ما الخطوط الحمراء التي لا يصحّ تخطّيها في تأسيس الحزب وكذا في ممارسته، داخل وجود سياسي معلوم؟ وفي عبارة أخرى نتساءل: كيف يمكن تبيّن الفارق (أو الفوارق) بين الاختلاف والتعدّد المشروع، بل الضروري والمطلوب لوجود الحياة السياسية السليمة، وبين الكثرة الشديدة التي تسلم إلى الفرقة الكاملة والتشتّت المطلق؟.

الحق أنّ هذا السؤال الأخير يبدو في الوجود العربي المعاصر، أكثر راهنيةً وإلحاحًا في غيره من جهات العالم. هو كذلك في وجود يتذبذب فيه الناس بين العزوف عن العمل السياسي جملةً وتفصيلًا، وبين الخوض في تجربة العبث واللاجدوى حينًا والعجز- مع التعلّق بأهداب الأمل في إقامة صرح حياة سياسية طبيعية، حينًا آخر. جعل أبو حامد الغزالي عنوانًا لأحد كتبه: "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة"، وفي لغتنا المعاصرة، تساءل عن الحدود التي تفصل بين البقاء داخل الإسلام وببن الخروج منه. أما وجه المقارنة عندنا وداعي الاستعارة، فهو الدعوة إلى التفكير في الحدود والفواصل التي نفتقد أو لا نعبأ بوجودها، في تأسيس الحزب السياسي وفي عمله، في عالمنا العربي. ما الفارق المطلوب إقامته بين التعدّد في الرؤية، وذلك جوهر العقيدة الحزبية، والاختلاف في البرنامج السياسي، وذاك هو الوجه الناصع للممارسة الديمقراطية وأحد شروط تحقّقها؟. نتساءل إذن، في ضوء اقتباس قول الغزالي ("فيصل التفرقة") عن الفيصل في العمل السياسي الحزبي، في عالمنا العربي، بين التعدّد المطلوب وبين التشتّت المرفوض، وبالتالي تقويض الدولة؟.

من غير العسير تعيين الخطوط الواجب الحرص على عدم اختراقها في تأسيس الحزب السياسي وممارساته

إذا كنا قد ألححنا على وجوب توافر شرط أساسي في تكوين الحزب السياسي على شرط الصدور عن "الإرادة العامة" وبالتالي التعبير عن قوى لها وجود فعلي في المجتمع، وكنا، إزاء ذلك، قد ألمحنا إلى وجوب مراعاة تشريع يحفظ على الأقلية حقوقها، فإننا نضيف إلى ذلك القول بأنّ من غير العسير، بل إنه في المتناول، تعيين الخطوط الواجب الحرص على عدم اختراقها في تأسيس الحزب السياسي وفي ممارساته معًا.

لا نتساءل إذن عن الجائز في تأسيس الحزب السياسي وفي ممارساته، وإنما نحن نقلب السؤال فنقول: ما المرفوض وغير الجائز في تكوّن الحزب السياسي وفي ممارساته في العالم العربي؟

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن